مجمع الفوائد: یشتمل علی مسائل اصولیه و قواعد فقهیه...

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، 1301 - 1388.

عنوان و نام پديدآور : مجمع الفوائد: یشتمل علی مسائل اصولیه و قواعد فقهیه.../ منتظری؛ قامت باعداده و تنظمیه لجنه الابحاث العلمیه فی مکتبته دام ظله.

مشخصات نشر : تهران : سایه ، 1384.

مشخصات ظاهری : 496 ص.

شابک : 25000 ریال: 964-5918-39-1

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : فقه -- قواعد

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : کتابخانه آیت الله منتظری. لجنه الابحاث العلمیه.

رده بندی کنگره : BP159/8/م 8م 3 1384

رده بندی دیویی : 297/31

شماره کتابشناسی ملی : م 84-9415

الفصل الأوّل: امور هامّة و قواعد عامّة مرتبطة بمفهوم الاعانة على الاثم

اشارة

و هو أيضا يشتمل على فوائد:

مجمع الفوائد، ص: 351

الفائدة الاولى: البحث في مفهوم الاعانة و ما يعتبر في صدقها

[محل البحث]

«محل البحث في مكاسب الشيخ الأعظم و إن كان موضوعا فقهيا و هو بيع العنب ممن يعمله خمرا، و لكن إطار البحث كان وسيعا بحيث دعى الأستاذ- مد ظلّه- إلى بيان امور هامّة و قواعد عامّة، أما الأمور فهي:

1- هل قصد الإعانة او ترتب المعان عليه شرط في تحقق مفهوم الإعانة أم لا؟

2- هل الإعانة من العناوين القصدية او الواقعية؟

3- هل يعتبر في صدق الإعانة علم المعين او ظنّه بترتب الحرام على فعله، أو العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

4- هل يعتبر في صدقها قصد المعان للإثم، او يكفي تخيل المعين لذلك؟ «1»

البحث في المسألة بلحاظ القواعد العامّة

و أمّا البحث بلحاظ القواعد العامّة فالعمدة منها ثلاثة أمور:

الأوّل: حكم الشارع بحرمة التعاون على الإثم و العدوان.

الثاني: حكم العقل بقبح إعانة الغير في الأمر القبيح و المحرم.

الثالث: أن دفع المنكر واجب كرفعه.

أمّا الأمر الأوّل فالبحث فيه تارة في مفهوم التعاون و الإعانة و ما يعتبر في صدقهما، و اخرى في بيان حكمهما شرعا.

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 298.

مجمع الفوائد، ص: 352

أمّا الأوّل ففيه وجوه بل أقوال:

الأوّل: ما استظهره المصنّف من الأكثر، و هو أنّ الإعانة عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدّمات فعل الغير و إن لم يقصد حصوله منه.

الثاني: إيجادها بقصد حصوله منه، كما في كلام المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد. و إطلاق القولين يقتضي التعميم لصورة وقوع المعان عليه في الخارج و عدم وقوعه.

الثالث: أنّه يعتبر فيه مع قصد ذلك وقوع الفعل المعان عليه في الخارج أيضا، و قد نسبه المصنّف إلى بعض معاصريه و أراد به صاحب العوائد كما يأتي.

الرابع: ما نسبه المصنّف إلى المحقّق الأردبيلي من اعتبار القصد أو وقوع المقدّمة على وجه يصدق عليها

الإعانة عرفا، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاه و لو لم يقصد ذلك.

الخامس: إيجاد بعض المقدمات القريبة دون البعيدة.

السادس: إيجاد بعض المقدّمات مطلقا بشرط وقوع المعان عليه في الخارج سواء تحقق القصد أم لا. اختار هذا في مصباح الفقاهة «1»، كما يأتي بيانه.

«و قد يستشكل في صدق الإعانة بل يمنع، حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المعان، بناء على أنّ الإعانة هي فعل بعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا. و أوّل من أشار إلى هذا، المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في هذه المسألة، حيث إنّه بعد حكاية القول بالمنع مستندا إلى الأخبار المانعة قال: «و يؤيّده قوله- تعالى-: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ و يشكل بلزوم عدم جواز بيع شي ء مما يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم لو تمّ هذا الاستدلال، فيمنع معاملة أكثر الناس. و الجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة، مع أنّ الأصل الإباحة، و إنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك.» انتهى (عبارة الشيخ الانصارى (ره)).

______________________________

(1)- مصباح الفقاهة، ج 1، ص 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 353

إذا العلم أعمّ من التفصيلي، و العلم الإجمالي بالصرف في الحرام متحقق في كثير من الموارد بل التفصيلي أيضا يتحقق كثيرا.

قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلام المحقّق الثاني:

«و هذا متين جدّا، لأنّ السيرة قد استمرّت على المعاملة على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في شهر رمضان مع علمهم بأكلهم، و على بيعهم بساتين العنب و النخيل مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا، و على معاملة الملوك فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند و العساكر المساعدين

لهم على الظلم و الباطل، إلى غير ذلك مما لا يحصى.» «1»

و ذكر نحو ذلك في الجواهر و أضاف إلى ما ذكر: إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم و بيع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما يتخذ كتب ظلال. ثم قال:

«و من ذلك يظهر أنّ قصد العليّة من طرف المشتري غير قادح، ضرورة حصوله فيما عرفت، فلو كان قادحا لاقتضى فساد البيع لأنّ فساده من جانب، فساد من الجانبين ...» «2»

«و وافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخري المتاخرين كصاحب الكفاية و غيره. هذا.»

راجع كفاية السبزواري في هذه المسألة «3» و لم يعلم المراد بقوله: «و غيره»، فإن أراد المقدس الأردبيلي (قده) فهو- كما يأتي- لا يشترط القصد تعيينا بل القصد أو الصدق العرفي.

«و ربما زاد بعض المعاصرين على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقق مفهوم الإعانة في الخارج، و تخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة بل من جهة قصدها، بناء على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة، ج 4، ص 38، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(2)- الجواهر 22/ 32- 33، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(3)- كفاية الأحكام، ص 85، كتاب التجارة، المقصد الثاني، المبحث الأوّل.

مجمع الفوائد، ص: 354

بقصد تحققه، و أنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلى المحرّم و من جهة الإعانة ...»

نقل كلام الفاضل النراقي في العوائد:

اورد عليه الفاضل النراقي (قده) في العوائد، و الأولى نقل كلامه ملخصا لما فيه من فوائد:

قال في أوائل العوائد ما ملخّصه:

«عائدة: قال اللّه- سبحانه-

في سورة المائدة: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و هذه الآية تدلّ على حرمة المعاونة على كلّ ما كان إثما و عدوانا، و استفاضت على تحريمها الروايات و انعقد عليه إجماع العلماء كافة، و لا كلام في ثبوت تحريمها و النهي عنها، و إنّما الكلام في تعيين ما يكون مساعدة و معاونة على الإثم و العدوان.

و تحقيقه أنّه لا شكّ و لا خفاء في أنّه يشترط في تحقق الإعانة صدور عمل و فعل من المعاون له مدخلية في تحقق المعاون عليه و حصوله أو في كماله و تماميّته.

و إنّما الخلفاء في اشتراط القصد إلى تحقق المعاون عليه من ذلك العمل، و في اشتراط تحقق المعاون عليه و عدمه أي ترتّبه على فعله، و في اشتراط العلم بتحقق المعاون عليه أو الظنّ أم لا، و في اشتراط العلم بمدخلية فعله في تحققه.

أما الأوّل: فالظاهر اشتراطه. و معناه أن يكون مقصود المعاون من فعله ترتّب المعاون عليه و حصوله في الخارج، سواء كان على سبيل الانفراد أم على الاشتراك، لأنّ المتبادر من المعاونة و المساعدة ذلك عرفا، فإنّا نعلم أنّه لو لم يعط زيد ثوبه إلى الخيّاط ليخيطه لا يخيطه الخياط و لا يتحقّق منه خياطة، مع أنّه لو أعطاه إيّاه و خاطه لا يقال: إنّه أعانه على صدور الخياطة، لأنّ غرضه كان صيرورة الشي ء مخيطا لا صدور الخياطة منه، إلّا إذا كان مقصوده صدور هذه الخياطة منه، كما إذا كان ثوب لشخص و أراد ثلاثة من الخيّاطين خياطته فسعى شخص في إعطائه إلى واحد معين ليصدر منه الخياطة فيقال: إنّه أعانه على ذلك.

مجمع الفوائد، ص: 355

و لذا ترى أنّه لا يقال للدافعين أثوابهم

إلى الخياط إنّهم أعانوه على صنعة الخياطة و تعلّمها، مع أنّه لو لا دفع أحد ثوبه إليه لم يتعلّم صنعة الخياطة.

و لو دفع أحد ثيابا متعددة إلى شخص ليخيطها و كان غرضه ترغيبه إلى تعلمها و تحسينها حتى صار ذلك سببا لتعلّمها يقال عرفا إنّه أعانه عليها. و كذا التاجر لا يتجر لو علم أنّ أحدا لا يشتري منه شيئا أو لا يبيعه، فللبيع و الشراء منه مدخلية في تحقق التجارة منه و لا يقال للبائعين و المشترين إنّهم معاونوه على التجارة، بخلاف ما لو باع أحد منه و اشترى منه لترغيبه في التجارة و تعلّمه لها فيقال: إنّه أعانه عليها.

و أما الثاني: فالظاهر أيضا اشتراطه، فلو فعل أحد عملا قد يترتب عليه أمر و يكون له مدخلية في تحقق ذلك الأمر و لم يترتّب عليه ذلك فلا يقال: إنّه أعانه على ذلك الأمر و إن كان مقصوده منه إعانة شخص آخر في تحقّق ذلك و حصوله.

و لكن لو كان ذلك الأمر الذي يريد المعاونة عليه إثما و محرما يكون ذلك الفعل الذي صدر من المعاون أيضا إثما و حراما، لما علم في العائدة السابقة، كما لو قلنا بكونه معاونة على الإثم، غاية الأمر إختلاف جهة الحرمة و لو قلنا بكون ذلك أيضا معاونة على المحرم يحرم بالاعتبارين. و على هذا فلو غرس أحد كرما بقصد عصر الخمر منه للخمّارين فهو عاص في هذا الغرس آثم مطلقا، فلو أثمر و حصل منه الخمر و شرب يكون معاونة على الإثم أيضا و يكون حراما من هذه الجهة أيضا. و لو لم يتفق فيه ذلك حتى قلع لا يكون معاونة على إثم و لكن يكون حراما لأجل

قصده.

و أما الثالث: و هو العلم بتحقق المعاون عليه و بترتبه على عمله فهو لا يشترط، فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر و شرب يكون عمله معاونة على الإثم، و إن لم يؤخذ منه الخمر لا يكون معاونة و إن أثم في غرسه بهذا القصد. فالمناط في الإثم و الحرمة مطلقا هو العمل مع القصد سواء ترتب عليه ما قصد ترتبه عليه أم لا. و سواء علم

مجمع الفوائد، ص: 356

أنّه يتحقق أو فعله بقصد أنّه لعلّه يتحقق. و المناط في المعاونة على الإثم هو القصد و تحقق المعاون عليه معا، فلو تحقق يأثم بالاعتبارين.

و من هذا يظهر حال الرابع أيضا، أي اشتراط العلم بمدخلية عمله في تحقق المعاون عليه أم لا، و ذلك كما إذا علم أنّ علم أن زيدا الظالم يقتل اليوم عمروا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا و إلّا فلا.

ثم إذا أحطت بما ذكرنا تعلم ما ذهب إليه الأكثر من جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يتفق عليه و حرمته مع الاتفاق عليه.

أمّا الأوّل فلأنّ المقصود من البيع ليس جعل ذلك خمرا فلا يكون إعانة على الإثم. و ذلك مثل حمل التاجر المتاع إلى بلد للتجارة مع علمه بأنّ العاشر يأخذ منه العشور.

و أمّا الثاني فلأنّ مع الاتفاق عليه أو شرطه يكون البائع بائعا بقصد الحرام فيكون

آثما و إن لم يكن لأجل المعاونة على الإثم لو لم يتحقق جعله خمرا.

و من هذا يظهر عدم الحاجة إلى التأويلات البعيدة في الروايات المصرّحة بجواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب لمن يجعله برابط و إجارة السفينة لمن يحمل الخمر و الخنزير، بل تبقي على ظاهرها.

و من ذلك أيضا يظهر سرّ ما ورد في روايات كثيرة من جواز بيع المتنجّس من الذمي و الميتة لمستحلّ الميتة مع كون الكفّار مكلّفين بالفروع، فإنّه لا ضير في ذلك لأنّ البائع لم يفعل حراما.» «1»

أقول: أما ما أشار إليه في أثناء كلامه و فصّله في العائدة السابقة من أنّ الإتيان بمقدمة الحرام بقصد التوصل بها إليه يكون محرما شرعا و إن لم يترتب عليها، فهو ممنوع و إلّا لزم

______________________________

(1)- عوائد الأيّام، ص 26، العائدة السابعة.

مجمع الفوائد، ص: 357

كون الآتي بالحرام مع مقدماتها الكثيرة بقصده مرتكبا لمعاص كثيرة و مستحقا لعقوبات كثيرة، و هو كما ترى.

و بالجملة فكما لا نسلّم وجوب مقدمة الواجب وجوبا شرعيا لا نسلّم حرمة مقدمة الحرام أيضا حرمة شرعية و إن وقعت بقصد التوصّل بها إليه.

نعم لا ننكر كونه متجريا و لكنه غير مفهوم العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر و النهي المولويين في قبال مفهوم الإطاعة. و القول بكون الإعانة على الإثم و العدوان بنفسها محرما شرعيا بمقتضى العقل و الآية و إن أوجب كون عمل المعين بنفسه محرما شرعيا غير عمل المعان لكن هذا العنوان لا ينطبق و لا يصدق على إتيان نفس المعان بمقدمات عمله كما لا يخفى.

هذا. و لكن في خصوص باب الخمر يمكن القول بحرمة مقدمات تحصيلها و شربها أيضا، لما ورد من لعن غارسها

و حاملها و المحمولة إليه، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره الفاضل النراقي أخيرا من جعل الحكم بجواز بيع المتنجّس من الذمي و الميتة من مستحلّها من باب عدم صدق الإعانة بدون القصد.

ففيه أنّ مقتضى ذلك جواز بيعهما من فسّاق المسلمين أيضا مع عدم القصد و لا يقولون بذلك إذ يحكمون بحرمة بيعهما منهم و بطلانه لعدم ماليتهما شرعا، و إنّما حكموا بجواز بيعهما من مستحليهما بالروايات الخاصة الواردة فيهما، فراجع. و لعله من جهة أنّ المستحلّ لهما و إن كان في متن الواقع مكلّفا بالفروع لكنه في حال أكلهما لا يرى نفسه متهتكا و عاصيا بخلاف المؤمن الفاسق. و كيف كان فليس جواز بيعهما من مستحلّهما ناشئا عن عدم قصد البائع للانتفاع المحرم.

التعرّض لخمسة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة

اشارة

ثمّ إنّك رأيت أنّه (قده) تعرّض لأربعة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة:

الأوّل: قصد موجد المقدمة لتحقق المعان عليه.

الثاني: تحققه و ترتبه عليها خارجا.

مجمع الفوائد، ص: 358

الثالث: العلم أو الظن بتحققه.

الرابع: العلم بمدخلية فعل المعين في تحققه.

و قد صرّح (قده) باعتبار الأولين في صدقها و عدم اعتبار الأخيرين.

و أضاف الأستاذ الإمام (قده) إلى الأمور الأربعة أمرا خامسا، و هو قصد المعان خصوص المنفعة المحرمة فعلا و أنّه هل يعتبر ذلك في صدق الإعانة أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لقصده ذلك. «1»

فلنتعرّض للأمور الخمسة إجمالا:

[الأوّل قصد موجد المقدّمة]
هل القصد معتبر في مفهوم الإعانة أم لا؟

أمّا الأوّل فقد مرّ من المصنّف عن المحقّق الثاني و المحقّق السبزواري اعتبار قصد البائع في صدقها. و اختار الأستاذ الإمام (قده) أيضا ذلك. قال:

«فإنّ الظاهر أنّ إعانة شخص على شي ء عبارة عن مساعدته عليه و كونه ظهيرا للفاعل، و هو إنّما يصدق إذا ساعده في توصّله إلى ذلك الشي ء، و هو يتوقّف على قصده لذلك.

فمن أراد بناء مسجد فكلّ من أوجد مقدمة لأجل توصّله إلى ذلك المقصد يقال: ساعده عليه و أعانه على بناء المسجد.

و أمّا البائع للجصّ و الآجر و سائر ما يتوقف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم و بدواعي أنفسهم، فليس واحد منهم معينا و مساعدا على البناء و لو علموا أنّ الشراء لبنائه. نعم لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين الباني للمسجد لتوصّله إليه كان مساعدا بوجه دون ما إذا لم يفرّق بينه و بين غيره لعدم قصده إلّا الوصول بمقصده.

فالبزّاز البائع لمقاصده ما يجعل سترا للكعبة ليس معينا على البرّ و التقوى و لا

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره)، ج 1، ص 141 (ط. اخرى، ج 1، ص 210)،

في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 359

البائع للعنب بمقصد نفسه ممن يجعله خمرا معين على الإثم و مساعد له فيه. بل لو أوجد ما يتوقف عليه مجّانا لغرض آخر غير توصّله إلى الموقوف لا يصدق أنّه أعانه و ساعده عليه.

و التشبّث ببعض الروايات و الآيات لنفي اعتباره مع أنّ الاستعمال فيها من قبيل الاستعارة و نحوها في غير محلّه.

و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين لمريد الظلم و القتل حينهما فلعلّه لعدم التفكيك في نظر العرف بين إعطائه في هذا الحال و قصد توصّله إلى مقصده.

و لهذا لو جهل بالواقعة لا يعدّ من المعاون على الظلم، فلو أعطاه العصا لقتل حيّة و استعمله في قتل إنسان لا يكون معينا على قتل الإنسان. و بالجملة إنّ الصدق العرفي في المثال المتقدم لعدم التفكيك عرفا، و لهذا لو اعتذر المعطي بعدم إعطائه للتوصّل إلى الظلم مع علمه بأنّه أراده لا يقبل منه.» «1»

أقول: قوله (قده): «و التشبث ببعض الروايات» إشارة إلى ما يأتي الإشارة إليها ممّا استعمل فيها لفظ الإعانة و مشتقاتها فيها لا قصد فيه.

و قوله: «و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين» إشارة إلى ما يأتي عن المقدس الأردبيلي في آيات أحكامه.

و أمّا ما ذكره (قده) من المثال ببناء المسجد و غيره فيمكن أن يناقش بأنّ المتبادر من الإعانة على البرّ و الأمور الدينية في الاصطلاح الدارج بين المتشرّعة هو الإقدام فيها تبرعا و قربة إلى اللّه- تعالى- و هذا اصطلاح خاصّ دارج بيننا، فلا يجوز أن يجعل ملاكا و مقياسا لمفهوم الإعانة بحسب اللغة و العرف العامّ، فلعلّها بحسب اللغة موضوعة لكلّ ما له دخل في تحقق الفعل من

الغير، و الآية تحمل على المفهوم اللغوي و العرف العامّ و حمل الاستعمالات الكثيرة الواردة في الروايات على الاستعارة و المجازيّة يحتاج إلى دليل متقن.

ثمّ إنّه (ره) بعد اختيار اعتبار القصد في مفهوم الإعانة استدرك على كلامه هذا فقال:

«ثمّ إنّه على القول باعتبار القصد و تحقق الإثم في مفهومها لقائل أن يقول بإلقاء

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 142 (ط. اخرى، ج 1، ص 212).

مجمع الفوائد، ص: 360

القيدين حسب نظر العرف و العقلاء بالمناسبات المغروسة في الأذهان، بأن يقال:

إنّ الشارع الأقدس أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم و العدوان قلع مادّة الفساد و المنع عن إشاعة الإثم و العدوان. و عليه لا فرق بين قصده إلى توصّل الظالم بعمله و عدمه مع علمه بصرفه في الإثم و العدوان. فالنهي عن الإعانة إنّما هو لحفظ غرضه الأقصى و هو القلع المذكور فيلقي العرف خصوصية قصد التوصّل.» «1»

أقول: فيرجع كلامه الأخير إلى أن القصد و إن أخذ في مفهوم الإعانة لغة لكن المنهي عنه شرعا في الحقيقة أعمّ من ذلك. «2»

نقل كلام القائلين بعدم اعتبار القصد في صدق الإعانة و نقده

«و من جملة القائلين بعدم اعتبار القصد في صدق الإعانة المحققان:

الأردبيلي في زبدة البيان و الإيرواني في الحاشية ...» «3»

راجع زبدة البيان، كتاب الحج. «4»

و ما ذكره (ره) في هذا الكتاب يخالف ما مرّ منه في مجمع الفائدة من التأمّل في المسألة لكونها معاونة و هي محرمة بالعقل و النقل.

و كيف كان فهو (ره) أيضا ممن لا يعتبر القصد بخصوصه في صدق مفهوم المعاونة.

و بالجملة ففي قبال من مضى ممن يعتبر القصد في صدقها ترى كثيرا من الأصحاب لا يعتبرونه فيها، و هو الظاهر من بعض الأخبار.

و من هذا القبيل المحقّق الإيرواني في حاشيته،

قال- بعد المناقشة في دلالة الآية على حرمة الإعانة كما يأتي بيانه-:

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 143 (ط. اخرى، ج 1، ص 214).

(2)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 298 إلى 308.

(3)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 313.

(4)- زبدة البيان، ص 297، كتاب الحج، في تفسير الآية الثانية- آية التعاون- من النوع الثالث في أشياء من أحكام الحج.

مجمع الفوائد، ص: 361

«و بعد الغضّ عن هذا نقول: إنّ القصد قصدان: قصد بمعنى الداعي الباعث نحو الفعل فيكون حصول الحرام غاية لفعل المعين، و هذا هو الذي أراده المصنّف من القصد، و قصد بمعنى الإرادة و الاختيار فيكون الحرام ممّا اختاره المعين باختيار ما يعلم ترتّبه عليه.

و القصد بكلا معنييه غير معتبر في تحقق عنوان الإعانة، فإنّ الحقّ أنّ الإعانة عنوان واقعي غير دائر مدار القصد. فنفس الإتيان بمقدمات فعل الغير إعانة للغير على الفعل.

نعم مع عدم العلم بترتب الحرام لا يعلم كون الفعل إعانة على الحرام، فمن أجل ذلك لا يحرم، إذ كانت الشبهة تحريمية موضوعية، و هذا غير خروجه عن عنوان الإعانة واقعا.

أمّا إذا علم بالترتب زالت الشبهة و تنجز حكم الإعانة ....

فإذا لا إشكال في حرمة إعطاء السيف و العصا بيد من يعلم أنّه يقتل به أو يضرب بها، و كذا حرمة بيع العنب لمن بعلم أنّه يعمله خمرا.

و أمّا تجارة التاجر و سير الحاجّ مع العلم بأخذ العشّار و الظالم، و كذا عدم تحفظ المال مع العلم بحصول السرقة، فالكلّ خارج عن عنوان الإعانة. و ذلك لا من جهة عدم حصول القصد الغائي لما عرفت من عدم اعتبار هذا القصد و لا ما دون هذا القصد، بل من جهة أنّ الإعانة ليست

هي مطلق إيجاد مقدمة فعل الغير، و إلّا حرم توليد الفاسق، و الإنسان عادة يعلم أنّ في نسله يحصل مرتكب ذنب فيلزمه أن يجتنب النكاح، و أيضا حرم بذل الطعام و الشراب لمن يعلم أنّه يرتكب الذنب.

بل الإعانة عبارة عن مساعدة الغير بالإتيان بالمقدّمات الفاعلية لفعله دون مطلق المقدمات الشاملة للمادية فضلا عن إيجاد نفس الفاعل أو حفظ حياته.

فتهيئة موضوع فعل الغير و الإتيان بالمفعول به لفعله ليس إعانة له على الحرام.

مجمع الفوائد، ص: 362

و من ذلك سير الحاجّ و تجارة التاجر و فعل ما يغتاب الشخص على فعله. نعم ربّما يحرم لا بعنوان الإعانة و من ذلك القيادة. «1»»

أقول: لا يخفى أنّ العناوين القصدية عبارة عن العناوين الاعتبارية التي لا واقعية لها وراء الاعتبار، و إنّما تنتزع عن الأفعال و الأمور الواقعية بالقصد و الاعتبار، فيكون تقوّمها بقصدها، نظير عنوان التعظيم المنتزع عن الانحناء الخاصّ بقصده، و من هذا القبيل الملكية و الزوجية و الحريّة و العبودية و نحوها من العناوين التي تحصل بالعقود و الإيقاعات، و كذلك عناوين العبادات المخترعة من الصلاة و الزكاة و نحوهما.

و الظاهر أنّ الإعانة- كما ذكروه- ليست من العناوين الاعتبارية بل من العناوين الواقعية غير المتقومة بالقصد و إن كان تنجز التكليف المتعلق بها متوقفا على العلم و القصد كما في سائر موارد التكليف.

اللّهم إلا أن يقال: إنّ عدم كون الإعانة من العناوين القصدية، بمعني عدم توقف صدقها على قصد عنوانها، لا ينافي توقف صدقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصّة، إذ العرف يفرّق بين قصد الغاية الخاصّة و عدم قصدها، كما يفرّق بين العلم بترتبها و عدم العلم به، فتدبّر.

و

أمّا ما ذكره من عدم صدق الإعانة على إيجاد ذات الفاعل و توليده فالظاهر صحته أيضا و إلّا لكان خلق اللّه- تعالى- لأفراد الإنسان و إبقاؤه لهم و رزقهم إعانة منه على الكفر و الفسوق و العصيان.

و السرّ في ذلك أنّ الإعانة- كما مرّ- عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير أعني المعان، فهي من العناوين الإضافية المتقوّمة بوجود المعين و المعان، فما لم يوجد ذات المعان لا مجال لتحقق الإعانة و صدقها.

و أما ما ذكره (ره) من اختصاص الإعانة بالإتيان بالمقدمات الفاعلية دون الماديّة فلم يظهر لي مراده و لا وجهه، إذ تهيئة موضوع فعل الغير إذا لم يكن إعانة فكيف حكم بحرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا لأجل ذلك؟ و هل هذا إلّا تهيئة موضوع فعل الغير من دون أن

______________________________

(1)- حاشية المكاسب، ص 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ....

مجمع الفوائد، ص: 363

يسلب الاختيار من الغير؟ بل يكون وقوع التخمير باختياره و إرادته، فوزانه من هذه الجهة وزان تجارة التاجر التي تكون موضوعا لأخذ العشر.

استدلال المحقق الخوئي لعدم اعتبار القصد و العلم بترتب المعان عليه في الإعانة

و في مصباح الفقاهة أيضا حكم بعدم اعتبار القصد في مفهوم الإعانة و لا العلم بترتب المعان عليه، بل يراد بها إيجاد مقدمة الفعل مع وقوع المعان عليه في الخارج.

قال ما ملخّصه:

«فإنّ صحة استعمال كلمة الإعانة و ما اقتطع منها في فعل غير القاصد بل و غير الشاعر بلا عناية و علاقة تقتضي عدم اعتبار القصد و الإرادة في صدقها لغة.

كقوله عليه السّلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: «و أعانني عليها شقوتي.» و قوله- تعالى-:

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلٰاةِ. و في بعض الروايات أنّ المراد بالصبر الصوم.

و في أحاديث الفريقين:

«من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه.» و في رواية أبي بصير: «فأعينونا على ذلك بورع و اجتهاد.» و قوله: «من أعان على قتل مؤمن و لو بشطر كلمة ...» و قوله عليه السلام: «من تبسّم على وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام.»

و في رواية أبي هاشم الجعفري: «و رزقك العافية فأعانتك على الطاعة.» و في الصحيفة السّجادية في دعائه لطلب الحوائج: «و اجعل ذلك عونا لي.» و أيضا يقال: «الصوم عون الفقير، و الثوب عون للإنسان، و سرت في الماء و أعانني الماء و الريح على السير، و أعانتني العصا على المشي، و كتبت باستعانة القلم.»

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة. و دعوى كونها مجازات، جزافية لعدم القرينة عليها ...

و أمّا مسير الحاجّ و متاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس و الكمارك، و هكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلّها داخل في عنوان الإعانة، فإنّه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل الموضوع للإعانة و خروجها عن

مجمع الفوائد، ص: 364

عنوانها كما زعمه شيخنا الأستاذ و المحقق الإيرواني، كما لا وجه لما ذهب إليه المصنّف من إخراجها عن عنوان الإعانة من حيث إنّ التاجر و الحاج غير قاصدين لتحقق المعان عليه، لما عرفت من عدم اعتبار القصد في صدقها.» «1»

أقول: فأخصّ الأقوال في بيان مفهوم الإعانة قول الفاضل النراقي، حيث اعتبر في صدقها قصد الحرام و ترتّبه معا، و المحقق الثاني و من تبعه اعتبر القصد فقط، و في مصباح الفقاهة اعتبر الترتب فقط، و المحقق الإيرواني أيضا اعتبر الترتب فقط و لكنه فصّل بين المقدمات الفاعلية و بين المقدمات المادية الراجعة إلى تهيئة موضوع فعل

الغير.

هذا كلّه في بيان اعتبار القصد و عدمه، و سنعود إليه ثانيا عند شرح ما يأتي من المصنّف في المتن.

[الأمر الثاني ترتّب المعان و عدمه]
هل يعتبر في صدق الإعانة ترتّب المعان عليه أم لا؟

هذا هو الأمر الثاني من الأمور الخمسة التي وقع البحث في اعتبارها في صدق الإعانة، و قد مرّ عن الفاضل النراقي اعتباره مضافا إلى القصد، و ناقشه المصنّف كما مرّ بقوله:

«إنّ حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا.»

و الظاهر اعتباره، إذ الإعانة- كما مرّ- عنوان إضافي متقوّم بالمعين و المعان و المعان عليه، فما لم يتحقّق المعان عليه خارجا في ظرفه لا تتحقق الإعانة.

فإن قلت: قوام الإعانة في ناحية المعان عليه بصورته الذهنية لا بوجوده الخارجي كسائر العلل الغائية.

قلت: نعم و لكن الصورة ملحوظة بما هي طريق إلى الخارج لا بنحو الموضوعية، فإذا لم يتحقق المعان عليه في ظرفه ظهر عدم تحقق الإعانة و إن صدق التجري إن كان المعان عليه أمرا محرما. و بالجملة فإذا لم يتحقق إثم خارجا ظهر عدم تحقق الإعانة على الإثم.

و قد مرّ أنّ في مصباح الفقاهة أيضا حكم باعتبار ترتب المعان عليه في صدقها:

قال:

______________________________

(1)- مصباح الفقاهة، ج 1، ص 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 365

«الذي يوافقه الاعتبار و يساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم الإعانة بحسب الوضع بوقوع المعان عليه في الخارج و منع صدقها بدونه، و من هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنّه مصون الدّم و هيّأ له ثالث جميع مقدّمات الفعل ثم أعرض عنه مريد القتل أو قتله ثم بان أنّه مهدور الدم فإنّه لا يقال: إنّ الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدمات الفعل. كما لا تصدق الإعانة على التقوى

إذا لم يتحقق المعان عليه في الخارج، كما إذا رأى شبحا يغرق فتوهم أنّه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على التقوى فبان أنّه خشبة ...» «1»

بيان الأستاذ الإمام في أنه هل يشترط في صدق الإعانة ترتب المعان عليه أم لا؟

و للأستاذ الإمام (ره) في هذا المجال كلام طويل لا يخلو من فائدة، فلنتعرض له بتلخيص:

قال: «أمّا الأوّل (وقوع الإثم في الخارج) فقد يقال باعتباره، لأنّ الظاهر من قوله: لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ أي على تحققه، و هو لا يصدق إلّا معه، فإذا لم يتحقق خارجا و أوجد شخص بعض مقدمات عمله لا يقال: إنّه أعانه على إثمه، لعدم صدوره منه.

و بالجملة الإعانة على الإثم موقوفة على تحققه و إلّا يكون من توهّم الإعانة عليه لأنفسها و يكون تجرّيا لا إثما، و لهذا لو علم بعدم تحققه منه لا يكون إيجاد المقدمة إعانة على الإثم بلا شبهة.

و لكن يمكن أن يقال: المفهوم العرفي من الإعانه على الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم و إن لم يوجد، فمن أعطى سلّما لسارق بقصد توصّله إلى السرقة فقد أعانه على إيجادها، فلو حيل بينه و بين سرقته و لم تقع منه يصدق أنّ المعطي للسلم إعانة على إيجاد سرقته.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بدّ أن يقال: إنّ المعتبر في صدقها إيجاد المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقة من قبيل الشرط

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 178.

مجمع الفوائد، ص: 366

المتأخّر لصدقها، و كلاهما خلاف المتفاهم العرفي، أو يقال: لا يصدق الإعانة على الإثم حتى وجدت السرقة، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلى الحرام مراعى حتى يوجد ذو المقدمة و بعده يقال: إنّه أعانه عليه، و هو أيضا خلاف الواقع، أو يقال:

إنّ صدقها فعلا باعتبار قيام الطريق

العقلائي على وجود الإثم، و بعد التخلّف يكشف عن كونها تجريا لا إعانة، و هو أيضا غير صحيح لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتّفق إلّا أحيانا، و مع عدم القيام أيضا يقال: إنّه أعانه على إيجاده.

و إن شئت قلت: فرق بين كون الإثم بمعنى اسم المصدر و كونه بمعنى المصدر في صدق الإعانة، فعلى الأوّل يعتبر في صدقها الوجود بخلاف الثاني، و المقام من قبيل الثاني. لكن مع ذلك كلّه لا يخلو الصدق من خفاء و المسألة من غموض و إن كان الصدق أظهر عرفا.» «1»

أقول: اسم المصدر ينتزع من المصدر، فهما متساويان صدقا مختلفان بالاعتبار فقط، فالحدث كالإثم مثلا بلحاظ صدوره عن الفاعل و إضافته إليه يكون مصدرا و بلحاظه في نفسه يسمّى اسم المصدر، و على نظر الأستاذ يكون المصدر أعمّ من اسم المصدر، و قد عرفت أنّ الإعانة أمر إضافي متقوم بأطراف الإضافة و منها المعان عليه فلا تتحقق بدونه.

و على فرض القول بحرمة إتيان مقدمة الحرام بقصده حرمة شرعية فالمراد إتيان فاعل الحرام لمقدمة فعل نفسه لا إتيان الغير لمقدمة من مقدمات فعل الآخر.

نعم على فرض كونها إعانة على الإثم و حرمتها شرعا تكون حرمتها من هذه الجهة، و لكن المفروض عدم تحققها لعدم تحقق أحد مقوماتها فلا يصدق عصيان حكم الإعانة و إن صدق التجري بالنسبة إليه و هذا أمر آخر غير العصيان.

اللّهم إلّا أن يقال- كما يظهر من عبارة المتن الآتية أيضا-: إنّ تخمير العنب غاية تملك المشتري و واجديته للعنب لا بيع البائع له، و إنما الغاية لبيع البائع تملك المشتري له و هو أمر مقصود للبائع قهرا و متحقق جزما. فإذا فرض كون تملكه له حراما- كما

إذا وقع منه بقصد التخمير و قلنا بحرمة الإتيان بمقدمة الحرام بقصد الحرام مطلقا أو في خصوص التخمير إذ لا

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة للإمام الخمينى (ره)، ج 1، ص 141 (ط. اخرى، ج 1، ص 211)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 367

يقلّ هذا عن غرسه للكرم بقصده- فلا محالة يكون البيع إعانة للمشتري على هذا التملك الحرام لكونه مقصودا و مترتبا عليه سواء ترتب عليه التخمير أم لا.

قال الأستاذ الإمام (ره):

«هذا كلّه في كلّي المسألة. و أمّا خصوص الخمر فالظاهر المتفاهم من المستفيضة الحاكية عن لعن الخمر و غارسها و حارسها و بائعها و مشتريها و ... أنّ اشتراء العنب للتخمير حرام، بل كل عمل يوصله إليه حرام، لا لحرمة المقدمة، فإنّ التحقيق عدم حرمتها، و لا لمبغوضية تلك الأمور بعناوينها، بل الظاهر أنّ التحريم نفسي سياسي لغاية قلع مادّة الفساد. فإذا كان الاشتراء للتخمير حراما سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا، تكون الإعانة عليه حراما لكونها إعانة على الإثم بلا إشكال، لأنّ قصد البائع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام، و الفرض تحقق الاشتراء أيضا. فبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام و إعانة على الإثم ...» «1»

[الأمر الثالث: علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام]

هل يعتبر علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم لا؟

الأمر الثالث: هل يعتبر في صدق مفهوم الإعانة علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم يكفي في ذلك إتيانه بمقدمة الحرام برجاء ترتبه عليه؟ و قد مرّ عن العوائد عدم اعتباره و أنّه يكفي في صدقها القصد و الترتب خارجا و هو الأقوى. قال: «فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر

و شرب يكون عمله معاونة على الإثم ...» إلى آخر ما ذكره، فراجع ما مرّ من كلامه.

[الأمر الرابع] هل يعتبر العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

هذا هو الأمر الرابع مما أحتمل اعتباره في صدق الإعانة، و قد مرّ عن العوائد أيضا عدم اعتباره، و هو الأقوى أيضا. قال:

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 144 (ط. اخرى، ج 1، ص 215).

مجمع الفوائد، ص: 368

«و ذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمروا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا.»

أقول: حكمه بكونه آثما قطعا من جهة اختياره لحرمة مقدمة الحرام إذا أتى بها بقصده و قد مرّ منا الإشكال في ذلك.

[الأمر الخامس] هل يعتبر قصد المعان للإثم أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لذلك؟

هذا هو الأمر الخامس مما أحتمل اعتباره في صدق الإعانة، و الظاهر اعتباره، إذ على فرض عدم قصده له لا إثم حتى يصدق الإعانة عليه. و مجرّد تخيّل الإنسان لذلك لا يوجب تحقق الإثم و صدق الإعانة عليه. نعم يكون البيع منه مع هذا التخيّل تجرّيا و لكنه غير الحرمة و العصيان. هذا. و لكن لا يلزم وقوع القصد من المعان حين الشراء، بل لو كان حينه قاصدا للخير و لكن نعلم أنّه سيقصد الإثم بعد ذلك و يوجده خارجا كفى ذلك في صدق الإعانة عليه و لا سيّما إذا وقع البيع منه بقصد ذلك، فتدبّر. «1»

الفائدة الثانية: القواعد العامّة في المقام ثلاث: «2»

اشارة

قد مرّ أنّ في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا قد يبحث بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها، و قد يبحث بلحاظ القواعد العامّة أمّا الأخبار الخاصّة فقد كانت على طائفتين، و ذكرنا وجوه الجمع بينهما، فراجع.

و أمّا القواعد العامّة فهي في المقام ثلاث:

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 313 إلى 321.

(2)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 339.

مجمع الفوائد، ص: 369

الأولى: حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون.

الثانية: حكم العقل بحرمة الإعانة على الحرام.

الثالثة: وجوب دفع المنكر كرفعه.

1- حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون

[البحث عن حرمتها الشرعية بلحاظ الآية]

أما الأولى فالبحث فيها تارة في بيان مفهوم الإعانة و ما يعتبر فيها، و اخرى في بيان حرمتها الشرعية بلحاظ الآية الشريفة.

و قد طال البحث في مفهوم الإعانة و كلمات المصنّف و الأصحاب فيها.

و الآن وصلت النوبة إلى البحث عن حرمتها الشرعية بلحاظ الآية، و قد شاع بينهم الاستدلال بها لذلك.

و لكن ناقش فيه المحقق الإيرواني (ره) في حاشيته بوجهين: قال ما هذا لفظه:

«يمكن أن يقال: إنّ آية لا تعاونوا مؤدّاها الحكم التنزيهي دون التحريمي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعا، كما يمكن أن يقال: إنّ قضية باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيان المنكر و هذا معينا له بالإتيان ببعض مقدماته.» «1»

و قد تبعه في إيراد المناقشة الثانية في مصباح الفقاهة، فراجع «2». هذا.

و لكنّ الأستاذ الإمام قدّس سرّه أورد على الوجهين بما ملخّصه:

«يرد على الأوّل: أنّ قرينية بعض الفقرات لا تسلّم في المقام، لأنّ تناسب الحكم و الموضوع و حكم العقل

شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقى مجالا لحمل النهي على التنزيه، ضرورة حرمة العدوان و الظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

______________________________

(1)- حاشية المكاسب، ص 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ...

(2)- مصباح الفقاهة، ج 1، ص 180، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 370

و على الثاني: أنّ ظاهر مادّة العون عرفا و بنصّ اللغويين: المساعدة على أمر، و المعين هو الظهير، و إنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و أعانه عليه غيره، فيكون معنى الآية: لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا و معاونا.

و معنى تعاون المسلمين: أنّ كلا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر. ففي القاموس: «تعاونوا و اعتونوا: أعان بعضهم بعضا.» و نحوه في المنجد.

و كون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها.

فمعنى تعاون زيد و عمرو: أنّ كلّا منهما معين للآخر و ظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا. و بالجملة كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكا في إيجاد فعل شخصي. فالتعاون كالتكاذب و التراحم و التضامن مما هي فعل الاثنين من غير اشتراكهما في فعل شخصي.

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه و عدوانه. و هو ظاهر المادّة و الهيئة. و لو قلنا بصدق التعاون و التعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» «1»

نقد كلام الأستاذ الإمام في المقام

أقول: قد مرّ من المصنّف في المسألة الأولى من مسائل بيع العنب- أعني بيعه على أن يعمل خمرا- الاستدلال بكونه إعانة على الإثم، و مرّ منّا نقل مناقشتي المحقق

الإيرواني و إيراد الأستاذ الإمام (ره) عليهما و قلنا هناك: إنّ ظاهر العبارة الأخيرة من الأستاذ (ره) يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال لحجر واحد، مع أنّه القدر المتيقّن منه بلحاظ الهيئة، إذ الظاهر من اللفظ دخلهم في العمل في عرض واحد، و هو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. و أمّا إعانة أحد لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة. و إن شئت قلت: إنّ المتبادر من تعاون

______________________________

(1)- المكاسب المحرّمة للإمام الخميني، ج 1، ص 131 (- ط. اخرى، ج 1، ص 197)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 371

الشخصين دخلهما في عمل واحد شخصي في عرض واحد.

هذا ما ذكرناه هناك، و نضيف هنا: أنّه إذا فرض كون الحرام إعانة أحد الشخصين لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فهنا محرّمان مستقلان و لا دخل لأحدهما في حرمة الأخر و لا ارتباط بينهما، فلا يرى على هذا وجه لاستعمال باب التفاعل الظاهر في ارتباط الفعلين و كونهما محكومين بحرمة واحدة، بل كان المناسب أن يقال: لا يعين أحد منكم غيره في الإثم و العدوان.

فاستعمال باب التفاعل و تعلق نهي واحد به ظاهران في كون المنهي عنه اشتراكهما في عمل واحد قائم بشخصين أو بأشخاص، بحيث لا يتحقق غالبا إلّا بالاشتراك و التعاون، مثل أن يجتمع جماعة على قتل نفس محترمة أو هدم مسجد بحيث يكون كلّ واحد منهم معينا للآخرين في إيجاد فعل محرّم، إذ الأفعال التي يترتب عليها المصالح أو المفاسد على نوعين:

بعضها مما يقوم بشخص واحد

و بعضها مما لا يتحقق غالبا إلّا بالشركة فيه.

فالمتبادر من الآية النهي عن التعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المفاسد و الأمر بالتعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المصالح. و كون مادّة العون ظاهرة في كون أحد الشخصين أصيلا و مستقلا و الآخر فرعا له ممنوع، بل الظاهر من هيئة التفاعل كون الشخصين متلبسين بالمادّة في عرض واحد، فتدبّر.

و كيف كان فلا دلالة في الآية الشريفة على حرمة الإعانة على الإثم شرعا بمعنى كون أحد أصيلا في عمل و الآخر فرعا له موجدا لبعض مقدمات فعله، بل لم نجد بذلك دليلا من السنة أيضا.

نعم لا إشكال في حرمة الإعانة على الظلم لما ورد في ذلك من أخبار أهل البيت عليهم السّلام:

ففي صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السّلام: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين.» «1»

و في رواية السّكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم؟

______________________________

(1)- الوسائل، ج 12، ص 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 372

فاحشروهم معهم» «1» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

هذا كلّه بلحاظ الكتاب و السنة، و سيأتي الاستدلال بحكم العقل في هذا المجال.

2- حكم العقل بحرمة الإعانة على الإثم

[بيان كلام الإمام في المقام]

الثانية من القواعد العامّة التي أستدل بها للمقام و أمثاله حكم العقل بحرمة إعانة الغير على معصية المولى و إتيان مبغوضه.

و قد أوضح ذلك الأستاذ الامام (ره) و ملخّصه:

«أنّه كما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا و كذا الأمر به و الإغراء نحوه فكذلك تهيئة

أسبابه و إعانة فاعله قبيح عقلا موجب لاستحقاق العقوبة. و لهذا كانت القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم. فلو أعان أحد السّارق على سرقته و ساعده في مقدماتها يكون مجرما في نظر العقل و العقلاء و في القوانين الجزائية.

و قد ورد نظيره في الشرع فيما لو أمسك أحد شخصا و قتله الآخر و نظر لهما ثالث:

أنّ على القاتل القود، و على الممسك الحبس حتى يموت، و على الناظر تسميل عينيه.

و لا ينافي ذلك ما حرّرناه في الأصول من عدم حرمة مقدّمات الحرام، لأنّ ما ذكرناه هناك هو إنكار الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدماته، و ما أثبتناه هنا هو إدراك العقل قبح العون على المعصية و الإثم، لا لحرمة المقدّمة بل لاستقلال العقل بقبح الإعانة على الحرام الصادر عن الغير، و هذا عنوان لا يصدق على إتيان الفاعل لمقدمات فعله.

و بالجملة العقل يرى فرقا بين الآتي بالجرم و بمقدماته و بين المساعد له في الجرم و لو بتهيئة أسبابه و مقدماته، فلا يكون الأوّل مجرما في إتيان المقدمات زائدا على إتيان الجرم، و أمّا الثاني فيكون مجرما في تهيئة المقدمات، فيكون في نظر العقل المساعد له كالشريك له في الجرم و إن تفاوتا في القبح.

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 12، ص 130، و الباب، الحديث 11.

مجمع الفوائد، ص: 373

و الظاهر عدم الفرق في القبح بين ما إذا كان بداعي توصّل الغير إلى الجرم و غيره، فإذا علم أنّ السّارق يريد السرقة و يريد ابتياع السّلّم لذلك يكون تسليم السّلّم إليه قبيحا و إن لم يكن التسليم لذلك، و إن كان الأوّل أقبح. كما لا فرق في نظر العقل بين الإرادة الفعلية و

العلم بتجدّدها لا سيّما إذا كان التسليم موجبا لتجدّدها. كما لا فرق بين وجود بائع آخر و عدمه و إن تفاوتت الموارد في القبح.

ثمّ إنّ حكم العقل ثابت في تلك الموارد و إن لم يصدق على بعضها عنوان الإعانة على الإثم و التعاون و نحو ذلك. و لعلّ ما ورد من النهي عن التعاون على الإثم و العدوان أو معونة الظالمين أو لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخمر غارسها و حارسها و ...، و كذا ما وردت من حرمة بيع المغنّيات و إجارة المساكن لبيع بعض المحرمات كلّها لذلك أو لنكتته.

ثمّ إنّه بعد إدراك العقل قبح ذلك لا يمكن تخصيص حكمه في مورد كما لا يمكن تجويز المعصية.» «1»

تأييد كلام الأستاذ الإمام في المقام:

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره من الاستدلال بحكم العقل و العقلاء قوي جدّا، و الأحكام العقلية- كما ذكر- لا تقبل الاستثناء و تجري على اللّه- تعالى- أيضا، و على هذا فيشكل القول بالحرمة في كلّي المسألة و استثناء خصوص بيع العنب أو التمر للتخمير و الخشب لصنع البرابط بمقتضى النصوص الواردة.

و قال الأستاذ (ره) في مورد آخر ما ملخّصه:

«و لا يصحّ القول بتقييد الآية و السنّة، لإباء العقول عن ذلك، فإنّ الالتزام بحرمة التعاون على كل إثم إلّا بيع التمر و العنب للتخمير بأن يقال: إنّ الإعانة على غرسها و حرسها و حملها و غير ذلك محرّمة سوى خصوص الاشتراء، أو

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره) ج 1، ص 129 (- ط. اخرى، ج 1، ص 194)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 374

الالتزام بأنّ الإعانة على كلّ إثم حرام إلّا على شرب الخمر الذي هو

من أعظم المحرمات، كما ترى.

و توهّم أنّ الإعانة على الاشتراء المحرّم و هو ليس من المحرمات المهتم بها مدفوع بأنّ المفهوم من الآية و لو بمعونة حكم العقل أنّ مطلق تهيئة أسباب الإثم منهي عنه ...» «1»

نقد صاحب إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ الإمام (ره)

أقول: قد تعرّض في إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ (ره) في المقام بحكم العقل ثمّ أجاب عنه بما ملخّصه:

«الظاهر أنّه اشتبه على هذا القائل الجليل مسألة منع الغير عن المنكر الذي يريد فعله، و مسألة إعانة الغير على الحرام، حيث إنّ منع الغير عن المنكر مع التمكن منه واجب، و يمكن الاستدلال على وجوبه بحكم العقل باستحقاق الذمّ فيما إذا ترك المنع مع التمكن و لزوم منعه هو المراعى في القوانين الدارجة عند العقلاء، كما إذا باع سلّما مع علمه بأنّ السّارق يستعمله في سرقة الأموال، فلا يؤخذ على بيعه فيما إذا ثبت أنّه لم يكن يترتب على ترك بيعه ترك السرقة، كما إذا كان السّارق في بلد يباع في جميع أطرافه السّلّم، بحيث لو لم يبع هذا أخذ من غيره، و في مثل ذلك لا يؤخذ البائع ببيعه بل يقبل اعتذاره عن البيع بما ذكر- مع ثبوته-

و ما ذكر من الرواية ناظر إلى هذه الجهة، و إلّا لم يكن وجه لتسميل عيني الناظر، فإنّه لم يرتكب الحرام و لم يساعد عليه، بل إنّما لم يمنع عن القتل، و على الجملة حكم العقل، و المراعى في بناء العقلاء هو التمكن من منع الغير عما يريده من الجرم و نلتزم بذلك و نقول بعدم جواز بيع الخشب أو العنب فيما لو لم يبعهما من المشتري المزبور لما يكون في الخارج خمر أو آلة قمار.

و أمّا إذا أحرز أنّه لو لم

يبعه لا شترى من غيره فمثل ذلك يدخل في مسألة

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 146 (- ط. اخرى، ج 1، ص 218).

مجمع الفوائد، ص: 375

الإعانة على الحرام و لا دليل على قبح هذه الإعانة و لا على حرمتها إلّا في موارد الإعانة على الظلم.

و يظهر أيضا جوازها في غير ذلك المورد من بعض الروايات، كموثقة ابن فضّال، قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام أسأله عن قوم عندنا يصلّون و لا يصومون شهر رمضان، و ربما احتجت إليهم يحصدون لي، فإذا دعوتهم إلى الحصاد لم يجيبوني حتى أطعمهم و هم يجدون من يطعمهم فيذهبون إليهم و يدعوني، و أنا أضيق من إطعامهم في شهر رمضان. فكتب بخطّه أعرفه: «أطعمهم.»

و حملها على صورة الاضطرار إلى الإطعام لا تساعده قرينة، فإنّ المذكور في الرواية احتياج المعطي إلى عملهم، و الحاجة غير الاضطرار الرافع للتكليف، كما أنّ حملها على صورة كونهم معذورين في الإفطار يدفعه إطلاق الجواب و عدم الاستفصال فيه عن ذلك.» «1»

الدفاع عن بيان الأستاذ الإمام (ره)

أقول: كون حبس الممسك لغيره حتى يقتل و تسميل عيني الناظر من جهة عدم منعهما عن القتل فقط ممنوع، بل الظاهر كونهما بلحاظ تصدي كلّ منهما لعمل وجودي دخيل في تحقق القتل الواقع. و ليس المقصود من الناظر في المسألة كلّ من اتفق صدفة نظره إلى القتل الواقع، بل من كان عينا للقاتل و ربيئة له كما في الجواهر «2»، حيث إنّ من يريد قتل غيره يرصد له غالبا جوّا خاليا من الأغيار، و ربما يستخدم لذلك من يراقبه و يحفظه من إشراف الغير.

و القول بأنّ المعين للجرم و الموجد لبعض مقدماته عالما مع عدم الانحصار و التمكن من

______________________________

(1)- إرشاد الطالب، ج 1، ص 88 و ما بعدها، عند قول المصنّف: و كيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع ...

و الموثقة رواها في الوسائل، ج 7، ص 266، الباب 36 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(2)- الجواهر، ج 42، ص 47 (- ط. اخرى، ج 42، ص 43)، كتاب القصاص، الفصل الأوّل، المرتبة الرابعة من مراتب التسبيب.

مجمع الفوائد، ص: 376

غيره لا يستحق الذمّ عند العقلاء أيضا قابل للمنع. نعم الإعانة مع الانحصار أقبح كما صرّح به الأستاذ (ره) في كلامه.

و موثقة ابن فضّال التي ذكرها تحمل على صورة الاحتياج و الاضطرار العرفي كما هو الظاهر منها، و مصلحة التسهيل على المكلّفين ربما توجب رفع القبح و المنع من بعض المحرمات، و نظيره في الشرع و كذا في الأحكام العرفية كثير، فتدبّر. «1»

3- أنّ دفع المنكر كرفعه واجب

«نعم يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشي ء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب. و إليه أشار المحقق الأردبيلي (ره) حيث استدل على حرمة بيع العنب في المسألة بعد عموم النهي عن الإعانة بأدلّة النهي عن المنكر.» «2»

قال في مجمع الفائدة:

«و مما يستبعد الجواز و عدم البأس- و هو الباعث على تأويل كلامهم-:

أن يجوز للمسلم أن يحمل خمرا لأنّ يشرب و الخنزير لأنّ يأكله من لا يجوز له اكله، و يبيع الخشب و غيره ليصنع صنما و الدفوف و المزمار مع وجوب النهي عن المنكر، و إيجاب كسر الهياكل و عدم جواز الحفظ، و كسر آلات اللهو، و منع الشرب، و الحديث الدالّ على لعن حامل الخمر و عاصرها المذكور في الكافي و قد تقدّم، و كذا

ما تقدّم في منع بيع السلاح لأعداء الدين، فإنّه يحرم للإعانة على الإثم و هو ظاهر.» «3»

و الظاهر أنّ اللام في قوله: «لأن يشرب» و أمثاله لام العاقبة لا للغاية لئلا يخرج عن مفروض البحث.

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 339 الى 346.

(2)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 347.

(3)- مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 51، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، و راجع الكافي، ج 6، ص 398.

مجمع الفوائد، ص: 377

قال الأستاذ (ره) بعد نقل هذا الكلام:

«و هو في كمال الإتقان، و حاصله دعوى منافاة أدلّة النهي عن المنكر المستفاد منها أنّ سبب تشريعه- لو كان شرعيا- قلع مادّة الفساد و العصيان لا سيما مع تلك التأكيدات فيه و الاهتمام به من وجوبه بالقلب و اليد و اللسان، و دلالة بعض الأحاديث على إيعاد العذاب لطائفة من الأخيار لمداهنتهم أهل المعاصي و عدم الغضب لغضب اللّه- تعالى- و النهي عن الرضا بفعل المعاصي، و الأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة و غيرها و كذا سائر ما ذكره، مع تجويز بيع التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا، و الخشب ممن يجعله صنما و صليبا أو آلة لهو و طرب. مع أنّ فيه إشاعة الفحشاء و المعاصي و ترويج الإثم و العصيان و ملازم للرضى بفعل العاصي.» «1»

ثم شرع الأستاذ (ره) في بيان أصل الاستدلال بالتعبير الذي ذكره المصنّف- و قد أدّى حقّه- فقال ما ملخصه:

«أنّ دفع المنكر كرفعه واجب، بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ كما صرّح به شيخنا الأعظم و حكى عن شيخ الطائفة و بعض كتب العلّامة و عن الشهيدين و الفاضل المقداد. و عن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي

عدم وجوبه عقلا بل يجب شرعا، و الحقّ هو الأوّل لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولى و مبغوضه و قبح التواني عنه سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج سواء صدر من مكلّف أم لا، فكذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف فإنّ المناط في كليهما واحد، و هو تحقق المبغوض، فإذا همّ حيوان بإراقة شي ء يكون إراقته مبغوضة للمولى و رأى العبد ذلك و تقاعد عن منعه يكون ذلك قبيحا منه، كذلك لو رأى مكلفا يأتي بما هو مبغوض لمولاه لاشتراكهما في المناط، و الحاكم به العقل.

______________________________

(1)- المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره)، ج 1، ص 135 (- ط. اخرى، ج 1، ص 203)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 378

فإن قلت: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت: هو كذلك لو كان المبغوض فعليا و لم يكن في النهي مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز الترك كشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه. فدعوى السيّد الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر في غير محلّها.

ثم إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع و الدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل، فإنّ ما وقع لا ينقلب عما وقع عليه، فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به و كان في معرض التحقق، و ما يدرك العقل قبحه هو هذا المقدار لا التعجيز بنحو مطلق حتى يشمل مثل ترك التجارة و الزراعة و النكاح

إلى غير ذلك.

نعم الظاهر عدم الفرق بين إرادته الفعلية و ما علم بتجدّدها بعد البيع لا سيّما إذا كان البيع سببا له كما مرّ.

و لو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعي فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدّفع، بل يرجع الرفع إليه حقيقة، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر و هو لا يتعلق بالموجود إلّا باعتبار ما لم يوجد، فإطلاق أدلّة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق و استمراره، بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة و كان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال العامل به فلا شبهة في إلغاء العرف بمناسبة الحكم و الموضوع خصوصيّة التحقق.

فهل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرأى و منظر من المسلم يجوز التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي؟

و هل ترى عدم وجوب النهي عن المنكر في الدفعيات؟! و لعمري أنّ التشكيك فيه كالتشكيك في الواضحات.» «1»

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 1، ص 136 (- ط. اخرى، ج 1، ص 203)

مجمع الفوائد، ص: 379

أقول: محصّل كلامه (ره): أنّ العقل- الذي هو المحكّم في باب روابط الموالي و العبيد- كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض للمولى بنحو الإطلاق و إن صدر عن غير المكلّف، كما إذا أراد سبع افتراس ولد المولى مثلا، كذلك يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، لاشتراكهما في الملاك أعني المبغوضية للمولى، من غير فرق في ذلك بين الرفع و الدفع. هذا على فرض كون وجوب النهي عن المنكر عقليا، و كذلك لو فرض

كونه بحكم الشرع، إذ المستفاد من أدلّته وجوب قلع مادّة الفساد و العصيان بسبب النهي و غيره مثل كسر آلات اللهو و هياكل العبادة. و هذا ينافي تجويز الشرع لبيع العنب مثلا ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا. هذا.

و قد أشار (ره) في أثناء كلامه إلى النزاع المعروف في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أن وجوبهما عقلي أو شرعي، و اختار هو كونه عقليا، و به صرّح المصنّف أيضا كما يأتي.

الفائدة الثالثة: [وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر]

هل وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عقلي أو شرعي؟

قال الشيخ في كتاب النهاية: «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام.» «1»

أقول: كلامه هذا ساكت عن هذه الجهة و إن كان المتبادر منه كون وجوبهما بحكم الشرع.

و قال في الاقتصاد:

«الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة و إن اختلفوا في أنّه هل يجبان عقلا أو سمعا: فقال الجمهور من المتكلّمين و الفقهاء و غيرهم، إنّهما يجبان سمعا، و إنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما، و إنّما علمناه بدليل الإجماع من الأمة و بآي من القرآن و كثير من الأخبار المتواترة، و هو الصحيح. و قيل: طريق وجوبهما هو العقل.

______________________________

(1)- النهاية، ص 299، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ...

مجمع الفوائد، ص: 380

و الذي يدلّ على الأوّل: أنّه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما، و قد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدلّ على وجوبهما ...

و يقوي في نفسي أنّهما يجبان عقلا: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لما فيه من اللطف ...» «1»

أقول: أنت ترى أنّ كلامه لا يخلو من تهافت. و الظاهر أنّ مقصوده من اللطف فعل ما يقرّب العبيد إلى الطاعة و يبعّدهم عن

المعصية، فلطف اللّه- تعالى- بعباده يقتضي وجوبهما من قبله.

و على هذا فمرجع كلامه إلى كون وجوبهما من قبل الشارع غاية الأمر كشف ذلك بحكم العقل، و لم يرد كون وجوبهما بحكم العقل نفسه، نظير وجوب الإطاعة التي لا مجال فيها لحكم الشرع و إلّا لتسلسل كما قرّر في محلّه.

و في الجواهر بعد قول المصنّف بوجوبهما إجماعا قال:

«من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب و السنّة و غيره، بل عن الشيخ و الفاضل و الشهيدين و المقداد أنّ العقل مما يستقلّ بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكّد.» «2»

و لكن المحقّق الطوسي (ره) منع من وجوبهما عقلا و حكم بكونه بحكم السّمع، قال في آخر التجريد:

«و الأمر بالمعروف الواجب واجب و كذا النهي عن المنكر، و المندوب مندوب سمعا، و إلّا لزم خلاف الواقع أو الإخلال بحكمته- تعالى-»

و قال العلّامة في شرحه:

«... و هل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أنّهما يجبان سمعا للقرآن و السنة و الإجماع، و آخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا. و استدلّ

______________________________

(1)- الاقتصاد، ص 146، فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2)- الجواهر، ج 21، ص 358، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

مجمع الفوائد، ص: 381

المصنّف على إبطال الثاني بأنّهما لو وجبا عقلا لزم أحد الأمرين: و هو إمّا خلاف الواقع أو الإخلال بحكمة اللّه- تعالى- و التالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطية أنّهما لو وجبا عقلا لوجبا على اللّه- تعالى- فإنّ كل واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، و لو وجبا عليه- تعالى- لكان إمّا فاعلا لهما فكان يلزم

وقوع المعروف قطعا لأنّه- تعالى- يحمل المكلّفين عليه، و انتفاء المنكر قطعا لأنّه- تعالى- يمنع المكلّفين منه، و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلا بالواجب و ذلك محال لما ثبت من حكمته- تعالى-» «1»

و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا. «2»

نكات ينبغي الإشارة إليها:

الاولى: ما هو الغرض من ايجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟

الظاهر أنّ الغرض من إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إيجاد الداعي و تقويته في نفوس المكلّفين لتوجههم إلى ما هو معروف و انزجارهم عما هو منكر حتى يصير المجتمع مجتمعا صالحا إسلاميا رائجا فيه الخير و الصلاح و يقلّ فيه الشرّ و الفساد، و ليس الغرض من إيجابهما إلجاء الناس و سلب الاختيار منهم بحيث لا يتمكن أحد من إتيان المنكر، إذ الدار دار الاختيار و الاختبار، و الكمال المطلوب للإنسان لا يحصل إلّا إذا بقي فاعلا مختارا ينتخب بحسن نيته ما فيه الخير و الصلاح أو يختار بسوء سريرته ما فيه الشرّ و الفساد.

قال اللّه- تعالى- في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» و البلاء لا يحصل إلّا مع الاختيار.

______________________________

(1)- كشف المراد، ص 428، المقصد السادس، المسألة السادسة عشرة.

(2)- المنتهى، ج 2، ص 993، كتاب الجهاد ...، المقصد التاسع، البحث الثاني.

(3)- سورة الملك (67)، الآية 2.

مجمع الفوائد، ص: 382

ففي الحقيقة يكون إيجابهما بداعي تقوية الأوامر و النواهي الأولية الواردة من قبل اللّه- تعالى- بوساطة الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام، و كلاهما واقعان في طريق تقوية العقل و الفطرة.

و بالجملة فالغرض من إيجابهما جعل المحيط محيطا سالما إسلاميا يكثر فيه الاشتياق إلى الخير و الصلاح، لا إلجاء المكلّفين و سلب الاختيار منهم و حملهم بالإجبار على الطاعة و إن فرض قدرتنا على ذلك.

و على هذا

فلو فرض وجوبهما على اللّه- تعالى- أيضا كان وجوبهما عليه أيضا على حدّ وجوبهما علينا لا على نحو الإلجاء و الحمل الإجباري بحيث لا يتحقق معصية أصلا كما هو المستفاد من كلام المحقق الطوسي و بيان العلامة في شرحه و في المنتهي حيث يظهر منهما إرادة الحمل التكويني و المنع التكويني من ناحية اللّه- تعالى- لو وجبا عليه و عمل بهما.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ كيفية العمل بهذين الواجبين تختلف حسب الموارد، فإذا فرض أنّ أحدا مبسوط اليد يريد الأمر و النهي بالنسبة إلى جماعة كثيرة منتشرة في البلاد المختلفة فطريق ذلك عند العقلاء إبلاغ أوامره و نواهيه بوساطة عمّاله المتفرقين في البلاد و أمرهم بنشرهما و إبلاغهما، لا تصدي ذلك بنفسه و مباشرته، و على هذا فيمكن أن يقال:

إنّ أمر اللّه- تعالى- عباده بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إيجاب ذلك عليهم في الحقيقة أمر اللّه بالمعروف و نهي اللّه عن المنكر، إذ الأمر بالأمر أمر و الأمر بالنهي نهي، و لا يجب تحقق ذلك بمباشرته و لا يلزم في تحقق الواجب أزيد من ذلك.

الثانية: إطار الواجبات العقلية

أنّ ما يقال من أنّ الواجبات العقلية تجب على اللّه- تعالى- أيضا لعدم تطرّق الاستثناء إليها لا كليّة له، إذ لا يجري هذا في باب الإطاعة و العصيان من العناوين المنتزعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر و النواهي، فإنّ وجوب الأوّل و حرمة الثاني و إن كانا بحكم العقل لكن موضوعهما العبيد في قبال الموالي، فلا يمكن أن يجريا على اللّه- تعالى- نفسه، إذ لا مولى له حتى يجب عليه إطاعته و يحرم عليه عصيانه.

مجمع الفوائد، ص: 383

الثالثة: أحكام العقل على قسمين

لا يخفى أنّ أحكام العقل على قسمين:

بعضها مما يدركه العقل و يحكم به مستقلا و لا مجال لحكم الشرع فيها، كوجوب الإطاعة و حرمة العصيان، إذ لو كانا شرعيين لزم التسلسل أعني وجود أوامر غير متناهية و وجوب إطاعات غير متناهية و حرمة عصيانات غير متناهية كما مرّ بيانه.

و بعض منها من أحكام الشرع حقيقة و لكن العقل كاشف عنها كما في المقام- على القول به- إذ الظاهر أنّ وجوبهما شرعي و هما من فرائض الإسلام كما مرّ في عبارة النهاية و لكن طريق إثباتهما العقل بناء على ما قالوا من وجوبهما بقاعدة اللطف.

و معنى ذلك أنّه لو فرض عدم وجود آية أو رواية تدلّ على وجوبهما شرعا فالعقل يدرك وجوبهما من قبل الشارع لاقتضاء لطفه ذلك.

و بعبارة اخرى: القسم الأوّل من أحكام العقل في مقام الثبوت، و القسم الثاني من أحكامه في مقام الإثبات.

الرابعة: الاستدلال للمسألة بقاعدة اللطف

أنّ القائلين بوجوبهما عقلا ربما يستدلّون لذلك بقاعدة اللطف- كما مرّ عن الشيخ في كتاب الاقتصاد و يأتي من المصنف أيضا- و إنّما يحكم العقل بوجوب اللطف في المقام- على القول به- لو لم يتحقق من ناحية الشارع في هذا المقام لطف و عناية، فلأحد أن يقول:

إنّ إرساله للأنبياء و الرسل و إنزاله للكتب السماوية و أوامره الواردة في باب الإرشاد و التبليغ و ما ورد منه في الثواب و العقاب على الأعمال و أمثال ذلك كافية في تحقق ما يجب عليه- تعالى- من ترغيب العبيد إلى الطاعة و تنفيرهم عن المعصية، فلا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك.

مجمع الفوائد، ص: 384

نقد كلام الأستاذ الإمام (ره)

و أما ما ذكره الأستاذ (ره) من أنّ العقل كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض المولى بنحو الإطلاق يحكم أيضا بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، فيمكن أن يناقش فيه بالفرق بينهما بما أشرنا إليه آنفا من أنّ الغرض من خلق الإنسان من نطفة أمشاج و إيداء قوى مختلفة فيه: رحمانية و شيطانية، و جعله ذا إرادة و اختيار هو ابتلاؤه و اختباره ليميز اللّه الخبيث من الطيب و يظهر بذلك قداسة أهل الطاعة و خباثة أهل الطغيان.

و على هذا فاللازم أن توجد له أرضية السعادة و الشقاوة كليهما و أن يخلّي هو و طبعه المختار، و ليس وزانه وزان السبع الذي يريد افتراس ابن المولى مثلا- و هو غير مكلّف- حيث يجب منعه بأيّ نحو كان.

نعم لو كان المنكر من الأمور المهمة التي علم إرادة الشارع منع تحققه في الخارج من غير نظر إلى من يصدر عنه مثل قتل النفوس مثلا حكم العقل حينئذ

بوجوب رفعه و دفعه كيف ما كان، و لكن لا من باب النهي عن المنكر بل لكون الوجود مبغوضا للّه- تعالى- و إن صدر عن غير المكلف. هذا، و لكن لا يجب دفع ذلك أيضا من قبل اللّه- تعالى- تكوينا و مباشرة، إذ مباشرته بذلك توجب الإلجاء و سلب الاختيار عن الفاعل المختار، و هذا خلاف مصلحة نظام الاختيار و الاختبار.

احتمال القول بالتفصيل في المسألة

و إذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلأحد أن يفصّل و يقول- كما مرّ- إن كان المنهي عنه من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كان، كتقوية الشرك و قتل النفوس و تقوية الظالمين، حرمت الإعانة عليها بأيّ نحو كان.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا بأس بإيجاد بعض المقدمات البعيدة لها إذا لم يكن عن قصد و لم

مجمع الفوائد، ص: 385

يسلب اختيار الفاعل و لم تعدّ الفائدة المترتبة عليها منحصرة في الحرام عرفا كمثال إعطاء العصا للظالم، و لم تكن المقدمة منحصرة أيضا بنحو يعدّ إيجادها سببا لوقوع المعصية لا محالة بل عدّ وقوعها مستندا إلى المباشر فقط، و ذلك كبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب ممن يعلم أنّه يتخذه برابط مع عدم الانحصار، كما دلّت على جواز ذلك الأخبار الصحيحة- كما مرّت- و قد عرفت أنّ الغالب في مواردها عدم الانحصار فليحمل إطلاقها عليه.

و قد دلّ على هذا التفصيل مكاتبة ابن إذنية السابقة، «1» حيث فصّل فيها بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممن يتخذه صلبانا.

و قد علّل في صحيحة الحلبي السابقة عدم البأس بقوله عليه السّلام:

«تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه.» «2» فيظهر منه أنّ ملاك عدم البأس استناد

الحرام إلى المشتري دون البائع.

و على هذا فطرح النصوص الكثيرة الدالّة على الجواز- مع صحّة كثير منها- بسبب ما سمعته من التشكيك في كلمات الأعلام اجتهاد في قبال النصّ، و سهولة الشريعة و سماحتها تقتضي جواز الأخذ بها.

و غاية ما يمكن أن يقال: إنّ البائع يجب عليه نهي المشتري عما يقصده، لا تركه لبيع ما هو محلّل بطبعه و لا ينحصر فائدته في الحرام، و لا تعجيز المشتري بعد كون المشتري مختارا و الدار دار الاختيار و الاختبار لا دار الإلجاء و التعجيز كما مرّ، فتأمّل.

ما يشهد لقاعدة وجوب دفع المنكر

«و يشهد بهذا ما ورد من أنّه لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا.

دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقق المعصية من

______________________________

(1)- الوسائل، ج 12، ص 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2)- نفس المصدر، ج 12، ص 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

مجمع الفوائد، ص: 386

بني أميّة، فدلّ على ثبوت الذمّ لكلّ ما لو ترك لم يتحقق المعصية من الغير.»

راجع الوسائل، و متن الحديث هكذا: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا.» الحديث.» «1»

و حكومة بني أميّة الموجبة لسلب حقّهم عليهم السّلام قائمة بأعمال الجميع، بحيث يكون عمل كلّ منهم جزء من علّتها، و دفعها يتحقق بترك الجميع أعمالهم، فترك كلّ واحد منهم عمله دخيل في دفع حكومتهم، فيكون واجبا و العمل حراما و إن لم يكن بوحدته كافيا لدفعها. هذا.

مناقشة المحقق الخوئي (ره) و نقدها

و قد أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بوجوب دفع المنكر بما ملخّصه:

«أوّلا: بأنّ الاستدلال به هنا إنّما يتّجه إذا علم المعين بانحصار دفع الإثم بتركه الإعانة عليه، و أمّا مع الجهل بالحال أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغير فلا يتحقق مفهوم الدفع.

و ثانيا: بأنّ دفع المنكر إنّما يجب إذا كان ممّا اهتم الشارع بعدم وقوعه كقتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض المحترمة و نهب الأموال المحترمة و هدم أساس الدين و كسر شوكة المسلمين و نحو ذلك. و أمّا في غير ما يهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا

دليل على وجوب دفع المنكر.

و أما أدلة النهي عن المنكر فلا تدلّ على وجوب دفعه، فإنّ معنى دفعه تعجيز فاعله عن الإتيان به، و النهي عن المنكر ليس إلّا ردع الفاعل و زجره عنه على مراتبه المقرّرة في الشريعة، و لا وجه لقياس دفع المنكر على رفعه، إذ مرجع الرفع و إن كان بالتحليل إلى الدفع إلّا أنّ الأحكام الشرعية و موضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية. و لا شبهة في صدق رفع المنكر في العرف و الشرع على منع العاصي عن إتمام المعصية التي ارتكبها، بخلاف الدفع.

______________________________

(1)- نفس المصدر، ج 12، ص 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 387

و أمّا رواية ابن أبي حمزة فمضافا إلى ضعف السند فيها، أنّها أجنبية عن رفع المنكر فضلا عن دفعه لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره أوّلا فيأتي البحث فيه عن قريب عند تعرّض المصنف له. «2»

و أما ما ذكره من الفرق بين الرفع و الدفع فقد أجاب عنه الأستاذ (ره) بما مرّ من إلغاء الخصوصية بمناسبة الحكم و الموضوع، قال (ره):

«و هل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها يجوز التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب علينا النهي؟!» «3».

نعم الظاهر صحة ما ذكره من الفرق بين المعاصي المهمة التي لا يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كانت و بين غيرها، كما مرّ، ففي القسم الأوّل يجب السعي في عدم وقوعها و عدم استمرارها بأيّ نحو كان، لا من باب النهي عن المنكر بل لكونها مبغوضة للمولى و إن فرض صدورها عما لا تكليف له كالصغار و المجانين، بل و البهائم و الحوادث

الطبيعية كالزلزلة و نحوها، بخلاف القسم الثاني. و لا فرق في كليهما بين الرفع و الدفع، و ليس الدفع مطلقا عبارة عن تعجيز الفاعل. و مورد رواية ابن أبي حمزة من الموارد المهمة.

و بالجملة ففي غير الموارد المهمة و إن وجب النهي عن المنكر رفعا و دفعا رعاية لمصلحة الفرد لكن لا إلى حدّ يصل إلى الإلجاء و التعجيز، و لذا لا يجوز فيها إعمال الضرب و الجرح أيضا إلّا بإذن الحاكم إذا رآهما صلاحا، و في الحقيقة يلاحظ فيهما مصلحة المجتمع لا مصلحة الفرد فقط.

«و هذا و إن دلّ بظاهره على حرمة بيع العنب و لو ممّن يعلم أنّه سيجعله خمرا مع عدم قصد ذلك حين الشراء، إلّا أنّه لم يقم دليل على وجوب

______________________________

(1)- مصباح الفقاهة، ج 1، ص 181 و ما بعدها، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

(2)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 359.

(3)- المكاسب المحرمة للإمام الخميني (ره)، ج 1، ص 137 (ط. اخرى، ج 1، ص 206)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

مجمع الفوائد، ص: 388

تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية، و إنما الثابت من النقل و العقل القاضي بوجوب اللطف وجوب ردع من همّ بها و أشرف عليها.»

قد مرّ «1» أنّ إرسال الأنبياء و إنزال الكتب السماوية و الأوامر الأولية و ما ورد في إيجاب الإرشاد و التبليغ و الثواب و العقاب على الأعمال كافية في تحقق اللطف منه تعالى- على فرض وجوبه- و لا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك عليه- تعالى- «2»

______________________________

(1)- راجع ص 354، النكتة الرابعة.

(2)- المكاسب المحرمة، ج 2، ص 358.

مجمع الفوائد، ص: 389

الفصل الثاني: قاعدة اليد

اشارة

و هو يشتمل على فوائد:

مجمع

الفوائد، ص: 391

الفائدة الاولى: ما هو الدليل على حجية اليد؟

[كلام صاحب المستمسك]

«لو شك المشتري في أنّ البائع أدّى الزكاة أم لا؟

فهل يصح التمسك لصحة المعاملة بقاعدة اليد أم لا؟ و اختار في العروة أنّه ليس على المشتري شي ء.» «1»

و أما قاعدة اليد المتمسّك بها في المقام ففي المستمسك:

«ظاهر المشهور عدم حجية اليد إذا كانت مسبوقة بكونها أمانة أو عادية، لاستصحاب كونها كذلك». «2»

أقول: الشهرة المفيدة هي الشهرة القدمائية الكاشفة عن تلقي المسألة عن المعصومين عليهم السّلام كما نقّحناه كرارا، لا الشهرة الحاصلة بين الأصوليين المتاخرين في أمثال هذه المسائل الاستنباطية.

و الظاهر انّ نظره- قدّس سرّه- إلى ما ذكره المحقق النائيني في أصوله. و محصّله:

«ان اليد أمارة على الملكيّة إذا لم يعلم كيف حدثت، و أحتمل أن يكون حدوثها من أوّل الأمر بنحو الملكية. و امّا إذا علم حالها و أن حدوثها كان على وجه الغصب أو الأمانة أو الإجارة مثلا ثمّ أحتمل انتقال المال بعده إلى صاحب اليد فلا ينبغي الإشكال في سقوط اليد و وجوب العمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد، فان اليد أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة أو الغضب. و استصحاب حال اليد يوجب تعنونها بأحدهما، فلا تكون كاشفة عن الملكية. فلا ينبغي الإشكال في حكومة الاستصحاب على اليد إذا

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 112.

(2)- المستمسك، ج 9، ص 171.

مجمع الفوائد، ص: 392

استصحب حالها. و على ذلك يبتني قبول السجلات و أوراق الإجارة و ينتزع المال عن يد مدّعي الملكيّة إذا كان في يد الطرف ورقة الإجارة و نحوها، كما عليه عمل العلماء في سالف الزمان» «1».

نقد المستمسك لكلام المحقق النائيني:

و أجاب في المستمسك عن ذلك بما محصّله بتوضيح منّا:

«أنّه لو كان موضوع الحكم مقيّدا بقيد كقوله

أكرم العالم العادل مثلا، و كان للقيد في مورد حالة سابقة وجودا أو عدما جاز إحرازه بالاستصحاب بلا إشكال. و لكنّ الموضوع للحجيّة في المقام ليست هي اليد مقيّدة بعدم كونها أمانيّة أو عادية حتى يكون استصحابهما رافعا لموضوع الحجيّة. كيف؟ و اليد حجّة مطلقا و لو أحتمل كونها يد أمانة أو عدوان. غاية الأمر انّه في صورة العلم بكونها إحداهما قد علم بعدم الملكيّة. فلا مجال لجعل الحجيّة، لأنّ مورد الأمارة هو الشكّ، لا ان موضوع الحجيّة اليد التي ليست يد أمانة أو عدوان.

إذ فيه أولا: أنّ هذا غير معقول، إذ أمر اليد واقعا دائرة بين كونها يد ملك أو أمانة أو عدوان. فمع عدم الأخيرتين تكون الأولى مقطوعة. فلا مجال للحكم الظاهري.

و بعبارة اخرى: عدم الأخيرتين من لوازم اليد و الاستيلاء الملكي الواقعي، لا من قيود اليد الظاهريّة التي جعلت أمارة.

و ثانيا: أنّ مقتضى تقيّد الموضوع بذلك عدم جواز التمسّك باليد على الملكيّة، لأنّ الشكّ في الملكيّة ملازم للشكّ في الأمانة و العدوان و مع الشكّ في عنوان العام لا يجوز التمسّك بالعام.

نعم، يمكن أن يقال: ان حجيّة اليد عند العقلاء مختصّة بما إذا لم تكن مسبوقة بالأمانة و العدوان، و لا تشمل المسبوقة بذلك. و عليه يشكل التمسّك بالقاعدة في

______________________________

(1)- فوائد الأصول، ج 4، ص 225.

مجمع الفوائد، ص: 393

الموارد التي تعارف فيها القبض بالسوم قبل الشراء، و في الأعيان التي تكون بأيدي الدلالين إذا علم حدوث أيديهم بالوكالة ثم جهل الحال بعد ذلك» «1».

أقول: لعلّ المحقق النائيني أيضا لا يقول بكون الموضوع للحجية اليد التي ليست يد أمانة و عدوان حتى يرد عليه ما ذكر، بل يريد أن موضوع الحجية

اليد التي لم يحرز حالها. و المسبوقة بالأمانة و العدوان يحرز حالها بالاستصحاب، فتخرج عن موضوع الحجية. و لعلّ ما استدركه المستمسك أخيرا بقوله: «نعم»، أيضا يراد به هذا. إذ عدم حكم العقلاء بالحجية في اليد المسبوقة لا يكون إلّا بلحاظ الحالة السابقة و لا معنى للاستصحاب إلّا ذلك.

نقد ما في المستمسك

و لكن يرد على ذلك أولا: انه لم يؤخذ الجهل و عدم الإحراز قيدا في موضوع الحجية العقلائية. فإن قاعدة اليد من الأمارات، و ليس الشك و عدم الإحراز مأخوذا في موضوع الأمارات و إن كان موردها ذلك. نعم، موضوع الأصول العملية هو الشك، كما لا يخفى.

و ثانيا: ان الاستصحاب حكم شرعي تعبّدي، و ليس حكم العقلاء معلقا على عدم جريان الحكم الشرعي.

و قال السيد الأستاذ الإمام- مد ظلّه- في جواب المحقق النائيني ما حاصله:

«أنّ تحكيم الاستصحاب على بعض الأدلّة بتنقيح أو رفع إنّما هو في الأدلّة اللفظية، لا في مثل بناء العقلاء، فإنّه إن ثبت بناؤهم في مورد مسبوقية اليد بالإجارة و نحوها فلا تأثير للاستصحاب. و إن لم يثبت سقطت عن الحجية، كان هنا استصحاب شرعي أولا. و تعليق بنائهم على عدم قيام حجة شرعية كما ترى» «2».

و الأولى أن يقال: إنّ اليد أمارة عقلائية أمضاها الشارع. و قوله عليه السّلام: «من استولى على شي ء منه فهو له»، أيضا ليس إلّا إرشادا إلى ذلك. و مبنى حكم العقلاء غلبة كون اليد و الاستيلاء الكامل بنحو الملكيّة، و حيث انّ هذه الغلبة لا توجد في اليد المسبوقة بالأمانة أو

______________________________

(1)- المستمسك، ج 9، ص 171.

(2)- الرسائل، ج 1، ص 282.

مجمع الفوائد، ص: 394

العدوان، بل تكون بالعكس فلا تكون أمارة في هذه الصورة قهرا و

لا بناء لهم. و لا أقلّ من الشّكّ، فلا تثبت الحجية. نعم، لو قيل بكونها أمارة تأسيسية من قبل الشارع، أو أصلا عمليا اعتمادا على الأحاديث الواردة فيمكن أن يقال: انّ عموم قوله عليه السّلام: «من استولى على شي ء فهو له» محكّم. و لكن الظاهر كما عرفت كونها أمارة عقلائية. فالمتبع بناؤهم و سيرتهم، فتدبّر.

نقل كلام الأستاذ الإمام (ره) و نقده

ثمّ اعلم ان الأستاذ- مد ظلّه- قال في المقام ما حاصله:

«إذا علم حال اليد و أنها حدثت على وجه الغصب أو الأمانة فتارة لا يكون من مقابل ذي اليد مدّع، و تارة يكون و لم يرفع أمره إلى الحاكم، و ثالثة رفع إليه.

امّا في الصورة الأولى: فتارة يدّعي ذو اليد الملكيّة و الانتقال اليه، و تارة لا يدّعي. فإن ادّعاها فلا يبعد أن يترتّب على ما في يده آثار الملكيّة في غير الغاصب. و امّا فيه فالظاهر عدمه. و هل يكون ترتيب الآثار من جهة انّه مدّع بلا معارض، أو من جهة قبول دعوى ذي اليد، أو من جهة اليد المقارنة للدّعوى؟

الظاهر انّه من جهة احدى الأخيرتين. و لهذا لو عارضه غير المالك الأوّل يعدّ مدّعيا و تطالب منه البيّنة. و امّا مع عدم دعوى الملكيّة أو عمل يظهر منه دعواها فلا يحكم بالملكيّة. كلّ ذلك من جهة بناء العقلاء و سيرتهم».

ثمّ تعرّض لكلام النائيني- قدّس سرّه- و أجاب عنه بما مرّ ثمّ قال:

و أما في الصورة الثانية: فان كان المعارض غير المالك فلا تسقط يده عن الاعتبار في غير الغاصب. و ان كان المالك يسقط اعتبارها لدى العقلاء لعدم بنائهم على ترتيب آثارها على ما في يده.

و أما في الصورة الثالثة: أي صورة رفع الأمر إلى الحاكم و مقام

تشخيص المدعي من المنكر فان كان في مقابلة المالك الأوّل تسقط يده عن الاعتبار و يقدّم استصحاب حال اليد على قاعدة اليد، لأنّه أصل موضوعي حاكم عليها» «1».

______________________________

(1)- الرسائل، ج 1، ص 281.

مجمع الفوائد، ص: 395

أقول: أمّا مع ادعّاء الملكيّة و عدم المعارض فترتيب آثار الملكيّة بلا إشكال. و يدلّ عليه مضافا إلى سيرة العقلاء خبر منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: «عشرة كانوا جلوسا وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، و قال واحد منهم: هو لي. فلمن هو؟ قال عليه السّلام: للذي ادّعاه» «1». و لكن لا دخالة لليد في ذلك، بل يكفي نفس الادعاء مع عدم المعارض، كما في مثال الكيس. نعم، لو عارضه غير المالك السابق و قلنا بتقدّمه كان هذا بسبب اليد و لكن المسألة لا تخلو من إشكال.

ثم انه- مد ظلّه- حكم في الصورة الثالثة بجريان الاستصحاب و حكومته على القاعدة، مع انّه ذكر في ردّ المحقق النائيني أنّ تحكيمه عليها إنّما هو في الأدلّة اللفظيّة، و امّا بناء العقلاء فأمره دائر بين النفي و الثبوت، فان ثبت في مورد اليد المسبوقة فلا مجال للاستصحاب، و إن لم يثبت سقطت اليد عن الحجيّة، كان هنا استصحاب أم لا. فهل لا يكون بين كلاميه- مد ظلّه- تهافت بيّن؟! فتدبّر.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه انّه في صورة الشك في المسألة و إن كان مقتضى أصالة عدم أداء الزكاة بقاءها في المال، و لكن مقتضى أصالة الصحّة صحّة المعاملة و عدم وجوب الزكاة. و أما قاعدة اليد فجريانها في المقام محل إشكال إلّا أن يصدر منه ادّعاء المالكيّة.

و

كيف كان فالأقوى ما ذكره الماتن. «2»

الفائدة الثانية: البحث حول حديث «على اليد»

[في مدرك الحديث و راويه]

«حرمة الرشوة و دليلها.

و قد تعرض سماحة الأستاذ- دام ظلّه- للبحث حول حديث «على اليد» «3».

أقول: إطلاق حديث «على اليد» يقتضي الضمان مطلقا، و لكن اتفق الأصحاب على

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 200، الباب 17 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، الحديث 1.

(2)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 112 إلى 116.

(3)- المكاسب المحرمة، ج 3، ص 215.

مجمع الفوائد، ص: 396

خروج اليد الأمانيّة منه، و كذا التسليط المجّاني من قبل المالك، و لكن يمكن أن يناقش ذلك بأنّ الرضى بالتصرّف في التسليط المجّاني كان في ضمن عقد الهبة فإذا فرض حكم الشارع بفساده ارتفع التسليط المذكور و لم يثبت تحقّقه حتى مع لحاظ فساد العقد.

ثمّ لا يخفى أنّ ضمان اليد ممّا يحكم به العقلاء في روابطهم الاقتصاديّة و استقرّت عليه سيرتهم إلّا في التسليط المجّاني و كذا في اليد الأمانيّة مع عدم التعدي و عدم التفريط في حفظه.

و أمّا حديث: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» أو «حتى تؤدّيه» المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يثبت من طرقنا بل من طرق العامّة، و راويه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب المعلوم حاله.

و اشتهار الاستدلال به من ناحية أصحابنا في الأبواب المختلفة يحتمل أن يكون في المسائل الخلافية و من باب المماشاه معهم لا لإحرازهم صدوره أو وجود حجّة لهم على ذلك.

و الحديث رواه أبو داود في البيوع، باب التضمين في العارية؛ و الترمذي أيضا في البيوع، باب أنّ العارية مؤدّاة؛ و ابن ماجة في الصدقات، باب العارية؛ و أحمد في مسنده، فراجع «1».

و الرواية في كتبهم

مسندة.

و بالجملة فالرواية عاميّة و راويها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب فقط. و إنّما رواها أصحابنا في كتبهم الاستدلالية و غيرها مرسلة أخذا منهم. هذا.

كلام شيخ الطائفة (ره) في العدّة و نقده

و يظهر من شيخ الطائفة (ره) جواز العمل بالأخبار المرويّة من طرق العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة المعصومين من ولده عليهم السّلام إذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها أو إجماع على خلافها. و يمكن أن يقال بوجود هذا الملاك فيما رووه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا.

قال في العدّة:

«و أمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر، فهو أن يكون

______________________________

(1)- سنن أبي داود، ج 2، ص 265، الباب 88، الحديث 3561؛ و سنن الترمذي، ج 2، ص 368، الباب 39، الحديث 1266؛ و سنن ابن ماجة، ج 2، ص 802، الباب 5 من كتاب الصدقات؛ و مسند أحمد، ج 5، ص 8 و 13.

مجمع الفوائد، ص: 397

الراوي معتقدا للحقّ، مستبصرا ثقة في دينه، متحرّجا من الكذب غير متّهم فيما يرويه.

فأمّا إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب و روى مع ذلك عن الأئمة عليهم السّلام نظر فيما يرويه. فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره. و إن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره و يكون هناك ما يوافقه وجب العمل به. و إن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك و لا يخالفه، و لا يعرف لهم قول فيه، وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«إذا أنزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما

رووه عن عليّ عليه السّلام فاعملوا به.»

و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلّوب و نوح بن درّاج و السّكوني و غيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السّلام فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ نوح بن درّاج، أخا جميل بن درّاج كان من الشيعة- على ما قالوا- و لكنّه كان يخفى أمره لكونه قاضيا من قبل الخلفاء. و الظاهر أنّ عمل الأصحاب بأخبار هؤلاء المذكورين كان من جهة الوثوق بصدقهم و إن كانوا من أهل الخلاف.

و لكن سمرة- مضافا إلى فسقه و عداوته لعليّ عليه السّلام و أهل بيته- كان ممّن يضع الحديث أيضا فقد روى ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي ما ملخّصه:

«إنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مأئة ألف درهم على أن يروي أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصٰامِ. «2» نزل في عليّ عليه السّلام و أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ «3» نزل في ابن الملجم الملعون فلم يقبل منه، فبذل مأتي ألف

______________________________

(1)- العدّة، ج 1، ص 379، في التعادل و التراجيح.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 204.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 207.

مجمع الفوائد، ص: 398

فلم يقبل، فبذل ثلاثة مأئة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل.» «1»

و قتل سمرة ثمانية آلاف رجل من الشيعة في البصرة حين أمارته عليها من قبل زياد في ستّة أشهر.

و سمرة هذا هو الذي كان له عذق في حائط رجل من الأنصار و كان يدخل

بلا استيذان فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستدعى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه أن يستأذن فأبى، فقال له: «خلّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا» فأبى حتى بلغ عشرة أعذاق فأبى فقال له: «خلّ عنه و لك عذق في الجنّة» فأبى، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّك رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار» ثمّ أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلعت. «2»

و بالجملة فالاعتماد على رواية سمرة مشكل، و قد مرّ أنّ استدلال الأصحاب بها في كتبهم لعلّه كان من باب المماشاة و لا سيّما في المسائل الخلافية مع العامّة.

فما في العوائد من: «أنّ اشتهارها بين الأصحاب و تداولها في كتبهم و تلقيهم لها بالقبول و استدلالهم بها في موارد عديدة يجبر ضعفها» «3» قابل للمناقشة.

و أمّا دلالتها على الضمان فالظاهر عدم الإشكال فيها، إذ ثبوت مال الغير على اليد تشريعا بنحو الإطلاق ظاهر في ضمانه و كونه على عهدته فيترتّب جميع الآثار: منها وجوب حفظه، و منها وجوب ردّه بنفسه أو ببدله و لا وجه للتخصيص ببعضها. و التحقيق موكول إلى محلّه فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في ضمان اليد بناء العقلاء و استقرار سيرتهم على ذلك، و على ذلك يدور رحى الاجتماع في جميع الأمم. «4»

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد، ج 4، ص 73.

(2)- تنقيح المقال، ج 2، ص 68.

(3)- العوائد، ص 109، العائدة 33.

(4)- المكاسب المحرمة، ج 3، ص 215 إلى 218.

مجمع الفوائد، ص: 399

الفصل الثالث: أصالة الصحة

اشارة

و هو يشتمل على فوائد:

مجمع الفوائد، ص: 401

الفائدة الأولى: أصالة الصحة في عمل النفس

«المبحث: لو شك المشتري في أن البائع، أدّى الزكاة أم لا؟

و إذا كان ذلك بعد وقت التعلق فالزكاة على البائع فإن علم بأدائه او شك في ذلك ليس عليه شي ء ...

و قد تعرض سماحة الأستاذ- دام ظلّه- للبحث في أصالة الصحة في عمل النفس و في عمل الغير بالتفصيل» «1»

قد يشكل ذلك في صورة الشك، لأصالة عدم أداء الزكاة و بقائها في المال. و لذا قال المصنّف في المسألة الخامسة من ختام الزكاة فيما إذا علم الوارث انّ مورثه كان مكلّفا بإخراج الزكاة و شك في أدائها: «نعم، لو كان المال الذي تعلّق به الزكاة موجودا أمكن أن يقال:

الأصل بقاء الزكاة فيه» «2». و كذلك الكلام في باب الخمس.

و قد يجاب عن الأصل المذكور بوجهين: الأوّل قاعدة الصحة الجارية في المعاملة و نحوها. الثاني قاعدة اليد، حيث إنّها أمارة على الملكيّة.

و لكن في المستمسك استشكل على الأوّل:

«بأن قاعدة الصحة تختصّ بالشك الحادث بعد المعاملة، بل قد قيل باختصاصها بخصوص صورة احتمال التفاته حين المعاملة و علمه بوجوب الأداء، فلا تجري في غير تلك الصورة فضلا عمّا إذا كان الانتقال بالموت و نحوه من الأسباب التي لا تتّصف بالصحة و الفساد.» «3»

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 108.

(2)- العروة الوثقى، ج 2، ص 338.

(3)- المستمسك، ج 9، ص 171.

مجمع الفوائد، ص: 402

أقول: لعلّ في كلامه- قدّس سرّه- نحو خلط بين أصالة الصحة الجارية في عمل النفس، و أصالة الصحة الجارية في عمل الغير. إذ الأولى لا تجري إلّا بعد الفراغ من العمل، بل بعد الدخول في الغير أيضا على الأحوط، كما هو المستفاد من بعض أخبار

المسألة كقوله في موثقة ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء ...» «1» كما انّ الأحوط لو لم يكن أقوى اختصاصها بصورة احتمال التفاته حين العمل و علمه بوجوب الأداء، كما يستفاد من قوله عليه السّلام في موثقة بكير: «... هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» «2»، و في صحيحة محمد ابن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «... و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك». «3»

الفائدة الثانية: أصالة الصحة في عمل الغير

[أصالة الصحّة في عمل الغير لا تختصّ بما بعد العمل]

و أما أصالة الصحّة الجارية في عمل الغير فلا تختصّ بما بعد العمل، بل تجري في حينه أيضا. فانّ بناء الناس على إختلاف مذاهبهم على حمل أعمال الناس في عقودهم و إيقاعاتهم و نكاحهم و طلاقهم على وقوعها بنحو تصحّ عندهم. و يحمل أعمال المسلم على الصحيح عند المسلمين و لا تختص بما بعد العمل.

ألا ترى انّه يحمل عمل المتصدي لتجهيز الميّت المشتغل به على الصحة، فيكتفى به، و عقد الوكيل و إيقاعه على الصحّة فيعتنى بهما، و إيجاب الموجب على الصحّة فيعقب بالقبول، و صلاة الإمام على الصحة فيقتدى به. إلى غير ذلك من الأمثلة.

نعم، لهم في أصالة الصحّة الجارية في معاملات الناس كلام. و محصّله أنّ الشكّ إما أن يكون في أركان العقد و ما هو من مقوّماته عند العرف، كما إذا احتمل وقوع البيع بلا ثمن أو

______________________________

(1)- الوسائل، ج 1، ص 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.

(2)- نفس المصدر، ص 332، الحديث 7.

(3)- الوسائل، ج 5، ص 343، الباب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

مجمع الفوائد، ص:

403

بثمن لا ماليّة له، و إمّا أن يكون في شرائطه الشرعيّة بعد العلم بحصول أركانه و مقوّماته العرفيّة. و على الثاني فاما أن يكون الشكّ في شرائط نفس العقد كالماضويّة مثلا، أو في شرائط المتعاقدين كالبلوغ، أو في شرائط العوضين كاعتباره بالكيل أو الوزن أو العدد.

ففي الفرائد، عن جامع المقاصد:

«أنّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد، أما قبله فلا وجود له» «1».

و السيد الأستاذ- مد ظلّه- أيضا نفى الإشكال في عدم جريان الأصل في هذه الصورة، بتقريب أنّ الصحّة و اللّاصحة في الرتبة المتأخّرة عن وجود العمل، و مع الشك في تحقّقه لا معنى لإجراء أصالة الصحة. «2»

و قد يظهر من بعض التفصيل بين ما كان الشك في شرائط أصل العقد و بين ما يرجع إلى شرائط العوضين أو المتعاملين، فيجري الأصل في الأوّل دون الثاني، بتقريب أنّ الدليل على أصالة الصحّة هو الإجماع، و المتيقّن من مورده ذلك.

دليل أصالة الصحّة في عمل الغير

أقول: أصالة الصحة أصل عقلائي، و دليلها بناء العقلاء و سيرتهم. و موردها عمل الغير بما انّه عمل له، سواء كان عقدا أو إيقاعا أو عملا آخر. و محصّلها انّهم يحملون العمل الصادر عن العاقل المختار على صدوره على طبق الموازين العقلائية للأهداف العقلائية، و العمل الصادر عن المقيّد بشرع خاصّ على صدوره على طبق الموازين العقلائية و الشرعية للأهداف العقلائيّة المشروعة. فلا يختلف في ذلك بين أنحاء الشكّ في الشي ء حتى الشكّ في أركانه. إذ لو كان المجرى صحّة العقد بما انّه عقد صحّ ما قالوه من أن الشكّ في الصحة و الفساد يرجع إلى الشكّ في وصف الشي ء و الهليّة المركبة، فلا يشمل الشكّ في الأركان، لرجوعه إلى الشكّ

في أصل الوجود و الهليّة البسيطة.

______________________________

(1)- فرائد الأصول، ص 417.

(2)- الرسائل، ج 1، ص 324.

مجمع الفوائد، ص: 404

و لكن المجرى ليس صحّة العقد بما هو عقد، بل صحّة العمل الصادر عن العاقل المقيّد بشرع خاص، فيحمل عمله على صدوره على طبق الموازين العقلائية المشروعة للأهداف المشروعة لهذا العمل. فحيث إنّه كان في عمله هذا بصدد إيجاد العقد فلا محالة صدر عنه على طبق الموازين، فوجد جامعا للأركان و الشرائط معا.

و يدلّ على ما ذكرنا وجود السيرة على إجراء أصل الصحّة في معاملات المسلمين و إن أحتمل فقدانها لبعض الأركان، فضلا عمّا إذا رجع الشكّ إلى شرط المتعاقدين أو العوضين.

و الحاصل إنّ مجرى أصالة الصحّة أعمال الناس بما هي اعمال صادرة عن العاقل المختار.

فيحمل كلّ عمل على صدوره على طبق الموازين للأهداف المتوقعة منه. و من مصاديق الأعمال الصادرة عنهم عقودهم و إيقاعاتهم. فعليك بالتفكيك بين العناوين و الحيثيّات.

و هذا نظير ما قلنا في باب المفاهيم من أن دلالة القيد على الدخالة و المفهوم ليس من قبيل دلالة اللفظ بما هو لفظ حتى يسأل عن كونها من أيّ قسم من الدلالات الثلاث، بل هي من قبيل دلالة الفعل الصادر عن العاقل المختار على صدوره عنه عن التفات للهدف العقلائي و الغاية الطبيعية له. و الغاية الطبيعية للقيد هو الدخالة في الموضوع. و لازمه الانتفاء عند الانتفاء، فتدبّر.

و كيف كان فأصل الصحّة يجري في عقد الغير و لو كان الشكّ راجعا إلى شرط العوضين، كما في المقام، حيث يشكّ في وجود الزكاة أو الخمس فيما ينقله.

فان قلت: الشكّ في المقام ليس في صحّة عقد الغير، بل في صحّة العقد الجاري بينه و بين نفس الشاكّ.

قلت: قد

عرفت انّ المجرى ليس صحة العقد، بل صحّة عمل الغير. و العمل الصادر عنه هنا هو الإيجاب. و العاقل المختار المتشرع لا يوجد الإيجاب بحسب الغلبة إلّا بنحو يترتّب عليه الأثر بعد لحوق القبول و انضمامه اليه. و هذا هو معنى الصحة فيه. فلا محالة وجد في المحل القابل للنقل، فافهم. هذا ما أردنا ذكره في قاعدة الصحة في المقام. «1»

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 108 إلى 111.

مجمع الفوائد، ص: 405

الفائدة الثالثة: الاستدلال على حجية دعوى الفقر و نحوه بوجوه

اشارة

«المبحث: هل يقبل في باب الزكاة و نحوها دعوى من ادعى الفقر أم لا؟» «1»

استدلوا لقبول الدعوى بوجوه كثيرة:

الوجه الأوّل: أصالة عدم المال،

كما في المبسوط و المنتهى.

و فيه أولا: عدم الاطّراد لعدم جريانه فيمن كان له مال فادّعى تلفه.

و ثانيا: أن عدم المال و إن كان له حالة سابقة في الأزل و لكنه انتقض غالبا، إذ يبعد جدّا عدم تموّل الشخص بمال إلى حين ادعائه. و لعل اول مال تموّله كان بحد الغنى.

و ثالثا: أن الموضوع للحكم ليس هو المال و عدمه بل الفقر و الغنى. و اللازم كون مصبّ الأصل ما هو موضوع الحكم. فالأولى تبديله بأصالة عدم الغنى.

و رابعا: أنه مثبت، فإن الفقر ليس صرف عدم المال أو عدم الغنى بالسلب المحصل بل بنحو المعدولة، إذ التقابل بين الغنى و الفقر بالملكة و عدمها عمن من شأنه أن يكون كذلك.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، مجمع الفوائد، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

مجمع الفوائد؛ ص: 405

فالغني من له مال فعلا أو قوة، و الفقير من عدم ذلك مع شأنيته. و من المحتمل أيضا ان يكون الأمر بالعكس، فالفقير من في معيشته خلّة، و الغني بخلافه. و كيف كان فإثبات الفقر بأصالة العدم مشكل. نعم، لا يرد هذا الإشكال على من يجعل الاستصحاب أمارة، كالقدماء من اصحابنا.

الوجه الثاني: أصالة العدالة في المسلم،

كما في المعتبر و المنتهى.

و فيه أن العدالة عبارة عن ملكة وجودية محتاجة إلى الإثبات، و استصحاب عدم العصيان لا يثبتها. اللّهمّ إلّا أن يمنع ذلك، و تجعل عبارة عن حسن الظاهر، أو يجعل حسن الظاهر أمارة لها. و لكن هذا أيضا أخص من المدّعى، إذ المدّعى قبول قول المدّعي و إن لم يتصف بحسن الظاهر، فتدبّر.

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 359.

مجمع الفوائد، ص: 406

الوجه الثالث: أصالة الصحة في دعوى المسلم و إخباره.

و مرجعه إلى أصالة الصحة في عمل المسلم، فإن القول من الأعمال أيضا. و استدل بها في التذكرة في رد الشيخ القائل بالاحتياج إلى البينة فيمن كان له مال فادعى تلفه.

و فيه أن عمل المسلم لو كان موضوعا لحكم شرعي لنا فبأصالة الصحة في عمله نرتب الإثر الشرعي. كما لو شككنا في صحة عقده و فساده حملناه على الصحة. و لو شككنا في صحة صلاته جاز الاقتداء به.

بل لا تختص الصحة بعمل المسلم، إذ العقلاء يرتّبون على العقود و المعاملات الواقعة بين الناس من أيّ ملّة كانوا آثار الصحة، كما يشهد به سيرتهم في تجاراتهم و معاشراتهم.

و لكن الموضوع للحكم في المقام ليس هو قول المدعي و عمله، بل الفقير، فيجب إحرازه.

ثم ليس صدق المدعي و كذبه صحة و فسادا لدعواه، كما لا يخفى. «1»

«ثم أشار الأستاذ- مد ظلّه- إلى أدلة اخرى لقبول دعوى الفقر و غيره و نقدها و قال:»

العاشر: ما جعله في الحدائق أمتن الأدلة و أظهرها. و محصله:

«أن مورد البينة و اليمين الدعاوي الجارية بين اثنين، و في الأخبار الكثيرة:

البينة على المدعي و اليمين على من أنكر. و لا دلالة في الأخبار على تكليف من ادعى شيئا و ليس له من يقابله و ينكر

دعواه بالبيّنة او اليمين. قال في المسالك بعد نقل خبر منصور بن حازم الوارد في الكيس: و لأنّه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعى منه، و لا لطلب البيّنة منه، و لا لإحلافه، اذ لا خصم له حتى يترتب عليه ذلك.» «2»

أقول: يرد عليه اولا أن حجية البيّنة في باب الترافع و المخاصمات لا تنافي حجيتها في غيرها أيضا.

و بناء الفقهاء في الأبواب المختلفة، كإحراز العدالة و الطهارة و النجاسة و غيرها، على الاعتماد عليها. و تدل على حجيتها مطلقا موثقة مسعدة بن صدقة الحاكمة بحلّية ما شك في

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 359 الى 361.

(2)- الحدائق، ج 12، ص 165.

مجمع الفوائد، ص: 407

حرمته، و فيها: «الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك او تقوم به البيّنة» «1»

و ثانيا أن البحث في حجية دعوى الفقر و الدين و الكتابة و غيرها، لا في حجية البيّنة و اليمين. فلو فرض عدم حجيتهما فهذا لا يدل على حجية نفس الدعوى، اذ لأحد نفي حجية الجميع. و حيث ان موضوع الحكم هو الفقير و نحوه بوجوده الواقعي فلا محالة يجب إحرازه بالعلم او الوثوق المتاخم له. «2»

ما هو المختار في المسألة؟

«ثم عدّ الأستاذ- مد ظلّه- أدلة المسألة إلى أربعة عشر دليلا و قال:» «3»

فهذه اربعة عشر دليلا ذكروها لقبول دعوى الفقر و نحوه بلا احتياج الى يمين او بيّنة.

و أكثرها و إن كان قابلا للمناقشة كما مرّ و لكن الفقيه الذي خلا ذهنه من الوسوسة ربما يطمئن بالتأمل في مجموعها بصحة المدعى، و لا سيما مع فرض حصول الظن من مشاهدة حال المدعي، لكثرة الابتلاء بهذا الموضوع و تعذر إقامة البيّنة او تعسّرها غالبا، فيجري

دليل الانسداد الصغير بمقدماته، بل لا نحتاج الى الظن أيضا اذ الزكاة شرّعت لسدّ الخلّات بحيث لو أعطى الناس زكواتهم لم يبق فقير و لا غارم، كما نطقت به الأخبار، و لا تترتب هذه المصلحة العامة اذا فرض التضييق في مقام الإعطاء و التقسيم، اذ يبقى الأعفّاء محتاجين و محرومين كما لا يخفى.

نعم، يشكل الأمر مع الظن بالخلاف و لا سيما مع سبق غنى المدّعي و قوّته.

الدليل الأصلي للمسألة

و قال في مصباح الفقيه:

«و عمدة ما يصحّ الاعتماد عليه في إثبات المدعى هي أن إخبار الشخص بفقره او غناه كإخباره بسائر حالاته من الصحة و المرض معتبر عرفا و شرعا، و إلّا فلا

______________________________

(1)- الكافي، ج 5، باب النوادر من كتاب المعيشة، الحديث 40.

(2)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 363.

(3)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 367.

مجمع الفوائد، ص: 408

طريق لتعرف حاجة المحتاجين في الغالب سوى إخبارهم، فلو لم يقبل دعوى الفقر من اهله لتعذر عليه غالبا اقامة البيّنة عليه او إثباته بطريق آخر غيرها إذ الاطلاع على فقر الغير و عدم كونه مالكا لما يفي بمؤونته من غير استكشافه من ظاهر حال مدّعيه او مقاله في الغالب من قبيل علم الغيب الذي لا يعلمه الّا اللّه، فلو بنى الاقتصار في صرف الزكاة و ساير الحقوق التي جعلها اللّه للفقراء على من ثبت فقره بطريق علمي او ما قام مقامه من بيّنة و شبهها لبقي جلّ الفقراء و المساكين الذين شرّع لهم الزكاة محرومين عن حقوقهم، و هو مناف لما هو المقصود من شرعها بل لا ينسبق عرفا من الأمر بصرف المال الى الفقراء في باب الاوقاف و النذور و نظائرها الّا ارادة صرفه فيمن يظهر من

حاله او مقاله دعوى الفقر، كأرباب السؤال و نظائرهم ... و لذا استقرت السيرة خلفا عن سلف على صرف الصدقات فيمن يدعي الاستحقاق من غير مطالبة بالبيّنة ...» «1»

و قد ادّى (قده) في عبارته هذه حق المسألة فتدبر ... «2»

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 91.

(2)- كتاب الزكاة، ج 2، ص 367 و 368.

مجمع الفوائد، ص: 409

الفصل الرابع: قاعدة الجبّ

اشارة

و هو يشتمل على فائدتين:

مجمع الفوائد، ص: 411

الفائدة الأولى: حديث الجبّ و سنده و دلالته

[في معنى الجبّ و صدور الحديث]

«لو أسلم الكافر بعد ما وجبت عليه الزكاة هل تسقط عنه؟

و استدلّ للسقوط بأمور: منها حديث الجبّ الذي عبّر عنه كقاعدة فقهية.

و تعرض سماحة الأستاذ- دام ظلّه- للبحث عن سنده ثم عن دلالته بالتفصيل.» «1»

اللازم أولا البحث عن سند الحديث ثم عن دلالته و مفاده.

فنقول: في النهاية في لغة جبب: «و منه الحديث: ان الإسلام يجبّ ما قبله و التوبة تجبّ ما قبلها أي يقطعان و يمحوان ما كان قبلهما من الكفر و المعاصي و الذنوب».

و مثله في لسان العرب في لغة جبب و قوله: «من الكفر و المعاصي» بنحو اللف و النشر المرتب كما لا يخفى.

و في مجمع البحرين في لغة جبب: «في الحديث: الإسلام يجب ما قبله و التوبة تجبّ ما قبلها من الكفر و المعاصي و الذنوب».

و الظاهر أنّ قوله: «من الكفر ...» ليس من الحديث بل هو تفسير منه مأخوذ من تفسير النهاية كما لا يخفى على أهل الفنّ إذ لا تجد هذا الذيل في نقل سوى ما في تفسير النهاية و اللسان.

و في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله- تعالي- في سورة بني اسرائيل: وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ما حاصله:

«أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي امية أخي أم سلمة و ذلك انه قال هذا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما فتح مكة استقبل ابن أبي امية فسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 137.

مجمع الفوائد، ص: 412

فأعرض عنه فدخل إلى أم سلمة و قال إن رسول اللّه

قبل إسلام الناس و ردّ إسلامي فذكرت أم سلمة ذلك لرسول اللّه فقال: إن أخاك كذّبني تكذيبا لم يكذبني أحد من الناس هو الذي قال لي: لن نؤمن لك الآيات، فقالت يا رسول اللّه أ لم تقل: إنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله قال: نعم فقبل رسول اللّه إسلامه» «1».

و في أواخر شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة عن أبي الفرج الأصفهاني ذكر قصة إسلام المغيرة بن شعبة و انه وفد مع جماعة من بني مالك على المقوقس ملك مصر فلما رجعوا جعلهم المغيرة سكارى ثم قتلهم و أخذ أموالهم و فرّ إلى المدينة مسلما و عرض خمس أموالهم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يقبله و قال عليه السّلام «هذا غدر و الغدر لا خير فيه» فخاف المغيرة على نفسه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإسلام يجبّ ما قبله». «2»

و في صلاة القضاء من المستمسك:

«في السيرة الحلبية: أنّ عثمان شفع في أخيه ابن أبي سرح قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما بايعته و آمنته؟ قال: بلى و لكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح و يستحي، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«الإسلام يجبّ ما قبله» و في تاريخ الخميس و السيرة الحلبية و الاصابة لابن حجر في إسلام هبار قال يا هبار: «الإسلام يجبّ ما قبله» و نحوه في الجامع الصغير للسيوطي في حرف الألف، و في كنوز الحقائق للمناوي عن الطبراني في حرف الألف: «الإسلام يجبّ ما قبله و الهجرة تجبّ ما قبلها».

و في حاشية المستمسك:

«في السيرة الحلبية في آخر غزوة وادي القرى: أن خالد بن الوليد و عمرو بن

العاص و عثمان بن طلحة جاؤوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسلمين و طلبوا منه أن يغفر اللّه لهم فقال لهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن الإسلام يجبّ ما كان قبله». «3»

______________________________

(1)- تفسير القمي، ج 2، ص 26.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد، ج 20، ص 8.

(3)- المستمسك، ج 7، ص 51، طبع النجف الأشرف.

مجمع الفوائد، ص: 413

أقول: و نحو ذلك في الجزء الرابع من طبقات ابن سعد في شرح حال خالد بن الوليد.

و روي هذه الجملة أيضا في أسد الغابة في إسلام هبار و في كنز العمال «الإسلام يجبّ ما كان قبله» (ابن سعد عن الزبير و عن جبير بن مطعم) و فيه أيضا عن الطبراني عن ابن عمر:

«أن الإسلام يجبّ ما كان قبله و الهجرة تجبّ ما كان قبلها» «1».

هذا و لكن في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال:

«فلما جعل اللّه الإسلام في قلبي أتيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: مالك يا عمرو قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط بما ذا؟ قلت أن يغفر لي قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها و أن الحج يهدم ما كان قبله» «2».

و في الدر المنثور: «أخرج ابن احمد و مسلم عن عمرو بن العاص» و ذكر نحو ذلك «3».

و في كنز العمّال عن مسلم عن عمرو بن العاص: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله و أن الهجرة تهدم ما كان قبلها و أن الحج يهدم ما كان قبله» «4».

و في

المستمسك عن مناقب ابن شهر آشوب، في من طلّق زوجته في الشرك تطليقة و في الإسلام تطليقتين: «قال علي عليه السّلام: «هدم الإسلام ما كان قبله، هي عندك على واحدة».

العلم الإجمالي بتواتر حديث الجبّ

فهذا ما عثرت عليه عاجلا من مواضع ذكر الحديث و الظاهر أنه متواتر إجمالا بمعنى أنه يحصل العلم إجمالا بصدور هذا المضمون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو في ضمن قصة من تلك القصص الكثيرة. و انه ليس جميع هذه القصص كاذبة بأن تواطئ الأشخاص على جعل هذا المضمون في ضمن القصص المختلفة.

______________________________

(1)- كنز العمّال، ج 1، ص 66 و 75، الحديث 243 و 297.

(2)- صحيح مسلم، ج 1، ص 78، باب أن الإسلام يهدم ما قبله.

(3)- الدر المنثور، ج 3، ص 308، في ذيل قوله تعالى «قل للذين كفروا ...»

(4)- كنز العمّال، ج 1، ص 67، الحديث 247.

مجمع الفوائد، ص: 414

و يظهر من بعض رواياتنا أيضا وضوح هذا المضمون في عصر الأئمة عليهم السّلام و إمضائهم له فروى الشيخ بسند صحيح عن جعفر بن رزق اللّه قال: قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة و أراد أن يقيم عليه الحد فأسلم فقال يحيى بن اكثم: قد هدم ايمانه شركه و فعله و قال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود و قال بعضهم: يفعل به كذا و كذا فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن الثالث عليه السّلام و سؤاله عن ذلك فلما قدم الكتاب كتب أبو الحسن عليه السّلام: «يضرب حتى يموت» فأنكر يحيى بن اكثم و انكر فقهاء العسكر ذلك و قالوا يا أمير المؤمنين سله عن هذا فانه شي ء لم ينطق به كتاب و لم تجي ء به السنة

فكتب أن فقهاء المسلمين قد انكروا هذا و قالوا: لم تجي ء به سنة و لم ينطق به كتاب فبيّن لنا بما اوجبت عليه الضرب حتى يموت فكتب:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا سُنَّتَ اللّٰهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ الْكٰافِرُونَ.» قال:

فأمر به المتوكل فضرب حتى مات. «1»

و جعفر بن رزق اللّه لم يذكر بمدح و لا بقدح إلّا أن يورث نقل محمد بن أحمد بن يحيى عنه نحو اعتماد عليه.

فيظهر من الحديث أن هدم الإسلام لما قبله كان بحدّ من الوضوح يعرفه النصراني أيضا و لذا أسلم بقصد الفرار من الحد و الإمام عليه السّلام أيضا لم ينف هذا المعنى بل كأنه أمضى أصله كما أثبته الفقهاء و إنّما أشار إلى نكتة دقيقة مستنبطة من كلام اللّه العزيز و هو أن الإيمان المفيد الهادم لما قبله هو الإيمان الصحيح لا ما حصل بقصد الفرار عن البأس فانه غير نافع.

و روى الكليني بسند صحيح عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام في نصراني قتل مسلما فلما أخذ أسلم، قال: «أقتله به» الحديث «2» و يظهر الاستدلال به مما سبق.

و في الدعائم في صلاة الجمعة: روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه عن علي عليه السّلام

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 408، الباب 36 من أبواب حد الزنا، الحديث 2.

(2)- الوسائل، ج 19، ص 81، الباب 49 من أبواب القصاص، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 415

«أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أربعة يستأنفون العمل: المريض إذا برئ و

المشرك إذا أسلم و المنصرف من الجمعة ايمانا و احتسابا و الحاج إذا قضى حجه.» «1»

نقد ما في المدارك من التشكيك في سند الحديث

و بالجملة فالتشكيك في اصل صدور مضمون الحديث بل في اصل الحكم كما في المدارك بلا وجه.

قال فيها:

«و قد نص المصنف في المعتبر و العلامة في جملة من كتبه على ان الزكاة تسقط عن الكافر بالإسلام و ان كان النصاب موجودا لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإسلام يجبّ ما قبله.» و يجب التوقف في هذا الحكم لضعف الرواية المتضمنة للسقوط سندا و متنا و لما روي في عدة أخبار صحيحة من أن المخالف إذا استبصر لا يجب عليه إعادة شي ء من العبادات التي أوقعها في حال ضلالته سوى الزكاة فانه لا بدّ أن يؤدّيها و مع ثبوت هذا الفرق في المخالف فيمكن إجرائه في الكافر، و بالجملة فالوجوب على الكافر متحقق فيجب بقاؤه تحت العهدة إلى أن يحصل الامتثال او يقوم على السقوط بالإسلام دليل يعتدّ به، على أنه ربما لزم من هذا الحكم عدم وجوب الزكاة على الكافر كما في قضاء العبادات لامتناع أدائها في حال الكفر و سقوطها بالإسلام إلّا أن يقال أن متعلق الوجوب ايصالها إلى الساعي و ما في معناه في حال الكفر و ينبغي تأمل في ذلك». «2»

أقول: فيه مضافا إلى ما مرّ من العلم بصدور الحديث إجمالا أن الحديث هو مضمون قوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ فالواجب هو البحث عن الدلالة و عن مقدارها.

______________________________

(1)- الدعائم، ج 1، ص 179، صلاة الجمعة.

(2)- مدارك الاحكام، ج 5، ص 42.

مجمع الفوائد، ص: 416

الفائدة الثانية: [بقية في حديث الجبّ]

نقد ما في المستمسك من التشكيك في دلالة الحديث

و ما في المستمسك من التشكيك في الدلالة على فرض كون المتن ما في مجمع البحرين إذ مفاده حينئذ رفع نفس الكفر و المعاصي و الذنوب.

فيرد عليه أولا

ما أشرنا إليه من أن الظاهر عدم كون الذيل جزءا من الحديث بل هو تفسير منه مأخوذ من تفسير النهاية و اللسان مذكور بنحو اللف و النشر فقوله «من الكفر» متعلق بالجملة الأولى و قوله «من المعاصي و الذنوب» متعلق بالجملة الثانية.

و ثانيا أن جبّ الإسلام لنفس الكفر و رفعه له أمر واضح لا يتصدى المعصوم لبيانه فلا محالة يراد رفع ما ثبت حال الكفر باعتبار آثاره فلا يضر الذيل بالاستدلال.

المحتملات في معنى حديث الجبّ

و ملخص الكلام أن المحتملات في الحديث ثلاثة:

الأوّل: أن يراد به أن الإسلام يرفع الكفر.

الثاني: أن يراد أن الإسلام يرفع آثار الكفر و أحكامه، أي الأحكام الشرعية التي موضوعها عنوان الكفر كنجاسة البدن و مهدورية الدم و المال مثلا.

الثالث: أن يراد به رفع ما تحقق في حال الكفر من ترك الواجبات و فعل المحرمات باعتبار الآثار و التبعات المتفرعة عليهما كترك الصلاة المستتبع للقضاء و شرب الخمر المستتبع للحد مثلا، فيراد بالحديث أن الخطيئة الكبيرة أعني الكفر لما كانت منشأ لسائر الخطايا من ترك الواجبات و فعل المحرمات خارجا إذا ارتفعت هذه الخطيئة بسبب الإسلام صار الإسلام كفارة لسائر الخطايا المتحققة بسببها، فترتفع تبعاتها أيضا كقضاء الصلاة و حدّ شرب الخمر مثلا فهو بوجه نظير قول الإمام الصادق عليه السّلام لسليمان بن خالد حينما قال سليمان:

إني منذ عرفت هذا الأمر أصلّي في كل يوم صلاتين أقضي ما فاتني قبل معرفتي، قال عليه السّلام:

مجمع الفوائد، ص: 417

«لا تفعل فان الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة». قال الشهيد: يعني ما تركت من شرائطها و أفعالها «1».

نقد المحتملات الثلاث

هذا و لا يخفى بطلان الاحتمال الأوّل لأنّه يساوق توضيح الواضحات بل و كذا الثاني لوضوح ارتفاع الأحكام بارتفاع موضوعاتها، مضافا إلى عدم تناسب ذلك لموارد صدور الحديث من قصص المغيرة و خالد و ابن العاص و ابن أبي سرح و غيرهم، فيتعين الثالث و مقتضاه أن إسلام الكافر يصير كفارة لما صدر عنه في حال كفره و بسبب كفره من ترك الواجبات و فعل المحرمات و يصير هو كأنه لم يصدر عنه ذلك فلا تترتب آثار ذلك و تبعاته فهذا إجمالا مما لا ريب

فيه.

و لكن استشكل عليه كما في المستمسك بوجوه:

الأوّل: أنه وارد مورد الامتنان المنافي لشموله للمقام، لأنّه خلاف الامتنان بالنسبة إلى الفقراء.

الثاني: أن ظاهر الحديث جبّ حال الكفر عن حال الإسلام فيختص بما لو كان ثابتا حال الإسلام، لاستند إلى ما ثبت حال الكفر كالتكليف بقضاء العبادات حال الإسلام فانه لو ثبت كان مستندا إلى الفوت حال الكفر فلا يجري في مثل الزكاة لأنّ حولان الحول مثلا على العين الزكوية يوجب حدوث حق للفقراء و إذا حدث يبقى باستعداد ذاته فاذا أسلم يجب عليه الزكاة للحق الباقي فعلا لا للحادث قبلا نظير ما إذا أجنب أو تنجس بدنه فان الجنابة و النجاسة أمران باقيان باستعداد ذاتهما و بعد الإسلام يؤمر بالغسل و الغسل للجنابة و النجاسة الفعليّتين لا لما قبل الإسلام و كذا إذا أسلم بعد الزوال مع بقاء الوقت فانه يؤمر بالصلاة للوقت الباقي لا للزوال السابق. و دعوى أن حق الفقراء ناشئ من الأمر التكليفي بأداء الزكاة المستند إلى حولان الحول حال الكفر، فبالحديث ينفي الأمر المذكور فينتفي الحق أيضا بانتفاء منشأه،

______________________________

(1)- الوسائل، ج 1، ص 98، الباب 31 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 4.

مجمع الفوائد، ص: 418

ممنوعة جدّا إذ الأمر بالعكس و ان الأمر بالإيتاء متفرع على ثبوت الحق في الرتبة السابقة فالأمر بإيتاء الزكاة نظير ادفع مال زيد إليه لا من قبيل ادفع مالك إلى زيد كيف و الأمر بايتاء الإنسان ماله إلى غيره لا يقتضي بوجه ثبوت حق للغير في ماله و التعبير بأموالهم في قوله- تعالى-: خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً من جهة ان أصلها من أموالهم او لأنها قبل الدفع لم تتعين زكاة.

الثالث: أن البناء على عموم الحديث يوجب

تخصيص الأكثر إذ لا ريب في بقاء عقوده و إيقاعاته و ما عليه من الديون و نحوها.

هذا و أجاب في المستمسك عن الأوّل: «بأن الامتنان بالنسبة إلى المسلم نفسه فلا مانع من كونه خلاف الامتنان بالإضافة إلى غيره».

و الأولى أن يجاب بأن الامتنان في الحديث على فرض اعتباره أخذ حكمة لا علة، فالحكم عامّ مضافا إلى أن الزكاة ليست ملكا للفقراء و انما هي مالية مجعولة في الإسلام و الفقراء من مصارفها.

و أجاب عن الثاني بأن الملكية لما كانت من الأمور الاعتبارية المحضة كان بقائها أيضا مستندا إلى ملاحظة منشأ الاعتبار، كحدوثها فما لم يلحظ منشأ الاعتبار في كل آن لا يصح اعتبارها و لذا كان الفسخ واردا على العقد و موجبا لارتفاع الأثر لا أنه وارد على نفس الأثر، فوزان الملكية و حولان الحول وزان وجوب القضاء و الفوت و مقتضى ذلك عدم تأثير حولان الحول الحاصل قبل الإسلام في ملكية الفقراء بعده.

نعم يتم الإشكال في مثل النجاسة و الحدث فانهما و إن كانتا اعتباريتين و لكن منشأ اعتبارهما نفس الأثر الخارجي الباقي باستعداد ذاته إلى ما بعد الإسلام.

و عن الثالث بانصراف الحديث إلى ما كان وقوعه قبل الإسلام مستندا إلى عدم الإسلام، كترك الواجب و الحرام فيصير الإسلام كفارة له فلا يشمل مثل العقود و الإيقاعات التي يشترك فيها المسلم و غيره. هذا.

مجمع الفوائد، ص: 419

الأحكام الشرعية على خمسة أقسام

و التحقيق أن يقال إن الأحكام الشرعية على خمسة أقسام:

الأوّل: الأحكام العقلائية الثابتة عند الناس بما هم عقلاء و إن لم يلتزموا بشريعة، غاية الأمر إمضاء الشارع لها و تحديدها و ردعه عن بعض مصاديقها كالعقود و الإيقاعات و الضمانات.

الثاني: الأحكام التكليفية التي أتى بها الإسلام

و تكون أحكاما تكليفية محضة غير مستعقبة لأثر شرعي كوجوب ردّ السّلام و حرمة الكذب مثلا.

الثالث: الأحكام التكليفية المستعقبة لآثار شرعية كوجوب الصلاة المستعقب للقضاء و حرمة الخمر المستعقب للحد الشرعي.

الرابع: الأحكام الوضعية الاعتبارية المحضة المستعقبة للآثار الشرعية، كملكية الفقراء للزكاة المستعقبة لوجوب الأداء و الضمان مع الإتلاف او التلف في بعض الموارد.

الخامس: الأحكام الوضعية الكاشفة عن نحو ثبوت خاصية خارجية كالنجاسة و الجنابة الكاشفتين عن ثبوت نحو قذارة خارجية جسمية أو روحية مثلا مع كونها مستعقبة لآثار شرعية كوجوب الغسل أو الغسل او حرمة دخول المسجد او عدم صحة الصلاة و نحو ذلك.

ما هو المقصود من حديث الجبّ؟

أما القسم الأوّل فربما ينسبق إلى الذهن عدم جبّ الإسلام لها إذ الظاهر من الحديث جبّ الإسلام للتخلّفات المستندة إلى الكفر و عدم الاعتقاد بالإسلام و الأحكام العقلائية الدراجة بين الناس لا ربط لها بالكفر و الإسلام.

و لكن ربما يخطر بالبال الإشكال في ذلك بالنقض بموارد ذكر الحديث فإنّ المغيرة قتل ثلاث عشرة نسمة و أخذ أموالهم و خالد بن الوليد قتل عدّة من المسلمين في الحروب كغزوة أحد مثلا و القصاص أو الدية و كذا تضمين الأموال من الأحكام العقلائية و مورد نقل المناقب من طلق زوجته تطليقة في الشرك و تطليقتين في الإسلام و فيه قال علي عليه السّلام

مجمع الفوائد، ص: 420

«هدم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة» مع أن النكاح و الطلاق من الأمور الدارجة بين العقلاء بما هو عقلاء.

اللّهم إلّا أن يقال إن من قتلهم المغيرة كانوا مهدوري الدم و المال بكفرهم فلذا لم يضمّنه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قتل خالد للمسلمين كان في القتال و الدفاع عن

عقيدته و كيانه بحسب وضعه و لم يكن مثل هذا باطلا موجبا للضمان عند الناس بل بحسب موازين الإسلام فيشمله حديث الجبّ قهرا و كذا الطلاق و ان كان دارجا عند الناس و لكن إيجابه للحرمة الأبدية في المرتبة الثالثة لعله كان مما شرّعه الإسلام فتأمّل.

و الذي يسهّل الخطب عدم ثبوت كل مورد من موارد الحديث بنحو يكون حجة شرعية و انما الذي ادّعيناه هو التواتر الإجمالي بمعنى العلم بعدم كذب الجميع و أنه ثبت واحد منها إجمالا.

و القسم الثاني من الأحكام مشمول للحديث جزما و كذا القسم الثالث بلحاظ الآثار المترتبة عليه، فلا يثبت بعد الإسلام القضاء و لا الحدّ لترك الصلاة و شرب الخمر في حال الكفر كما لا يشمل القسم الخامس قطعا بعد فرض خارجية النجاسة و الجنابة و بقائهما الى حال الإسلام و لكن الفرض قابل للمنع.

و أما القسم الرابع كملكية الفقراء للزكاة فمع إتلافها او تلفها في حال الكفر يرفع الحديث ضمانها بلا إشكال و أما مع بقاء النصاب و العين ففيه شائبة إشكال: من أن الملكية بعد ثبوتها باقية باستعدادها الذاتي فوجوب الأداء بعد الإسلام أثر للملكية الباقية الفعلية؛ و من أن الملكية من آثار حولان الحول في حال الكفر و الإسلام يقطع حال الإسلام عن حال الكفر فكأنّ حولان الحول لم يقع من أصله و كأنّه صار بعد الإسلام مالكا لهذا المال و لذا قال في المعتبر: «و يستأنف لماله الحول عند إسلامه». «1» و في القواعد: «و يستأنف الحول حين الإسلام» «2» و مثله في التذكرة. «3»

نعم في الجواهر عن نهاية الأحكام: «لو أسلم قبل الحول بلحظة وجبت الزكاة و لو كان

______________________________

(1)- المعتبر، ج 2، ص

490.

(2)- قواعد الاحكام، ج 1، ص 332.

(3)- تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 205.

مجمع الفوائد، ص: 421

الإسلام بعد الحول و لو بلحظة فلا زكاة» «1» و الظاهر هو سقوط ما تعلق سابقا.

قال في مصباح الفقيه:

«فإن مثل الزكاة و الخمس و الكفارات و أشباهها من الحقوق الثابتة في الإسلام بمنزلة القدر المتيقن منها كما يؤيد ذلك بل يدل على أصل المدّعى قضاء الضرورة بجريان سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام القائمين مقامه على عدم مؤاخذة من دخل في الإسلام بشي ء من هذه الحقوق بالنسبة إلى الأزمنة السابقة». «2»

و أمّا استيناف الحول و عدم احتساب الشهور السابقة ففيه إشكال فإن الملكية للنصاب متحققة و انقضاء الشهور على النصاب أمر تكويني متحقق فلم لا تتعلق الزكاة بعد ما حال الحول حين الإسلام؟ فالظاهر صحة ما في نهاية الأحكام فتدبّر.

كلام صاحب المدارك في حديث الجبّ و نقده

هذا و قد عرفت أن جبّ الإسلام لما قبله كان أمرا متسالما عليه إلى عصر صاحب المدارك فأنكره هو و صاحبا الذخيرة و المستند.

و ما ذكره صاحب المدارك وجها لعدم سقوط الزكاة بعد تضعيف الحديث سندا و متنا يرجع إلى وجوه ثلاث:

الأوّل: قياس الكافر على المخالف إذا استبصر حيث وردت الأخبار بصحة أعماله إلّا الزكاة.

الثاني: الاستصحاب.

الثالث: أنه يلزم من الحكم بالسقوط عدم صحة تكليفه لامتناع امتثاله حال الكفر و سقوطه بالإسلام.

هذا و قد عرفت إمكان أن يدعى تواتر الحديث إجمالا و كذا مفاده و دلالته، و القياس باطل و الأولوية ممنوعة، و الاستصحاب لا يجري مع الدليل، و الامتناع بالاختيار لا ينافي

______________________________

(1)- الجواهر، ج 15، ص 62 و نهاية الاحكام، ج 2، ص 308.

(2)- مصباح الفقيه، ج 3، ص 17.

مجمع الفوائد،

ص: 422

الاختيار و المدار في صحة التكليف تمكن المكلف و لو بترتيب مقدماته من قبل و الكافر كان متمكنا حال بلوغه من الإسلام و إتيان ما جاء به النبي و منه الزكاة. و عدم إمكان البعث او الزجر الفعلي لا ينافي وقوع الترك او الفعل مبغوضا عليه كما في الحركات الخروجية في الدار المغصوبة لمن توسطها بسوء اختياره.

بقي هنا شي ء و هو أن يقال إنّ جبّ الإسلام لما قبله وقع في سياق جبّ التوبة لما قبلها و هدم الحج لما قبله و نحو ذلك و واضح أن الحج أو التوبة لا تجبّ مثل الزكاة و نحوها من الحقوق الواجبة.

و فيه أن عدم الأخذ بظاهر الدليل في بعض الموارد بدليل لا يوجب رفع اليد عن ظاهر غيره فاللازم الحكم بجبّ الإسلام لجميع التخلّفات المتحققة حال الكفر إلّا لما ثبت بالدليل عدم جبّه له فتدبر.

و قد طال البحث عن المسألة فأرجو العفو من القرّاء الكرام و ألتمس منهم الدعاء. «1»

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 137 إلى 145.

مجمع الفوائد، ص: 423

الفصل الخامس: ثبوت الهلال بحكم الإمام و الوالي

اشارة

و هو يشتمل على فوائد و فروع:

مجمع الفوائد، ص: 425

الفائدة الأولى: الاقوال في ثبوت الهلال بحكم الامام و الوالي

«محل البحث و إن كان ثبوت الهلال بحكم الحاكم و عدمه، و لكن إطار البحث وسيع يشمل جميع الموضوعات التي يمكن أن يحكم الحاكم فيها حكما ولائيا. فهذا كالبحث عن حجية فتوى المجتهد في حق مقلّديه كان بحثا اصوليّا و يشتمل على حجية حكم الحاكم في الموضوعات، و أنها حجة مطلقا، او في حق مقلّديه فقط؟

و هل كانت مقيدة بحصول الوثوق الشخصي، او بعدم الظن أو الوثوق بخلافه؟» «1»

أقول: يثبت الهلال عندنا بالرؤية، و بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، بل بالعلم من أيّ طريق حصل، و بشهادة عدلين إجمالا و إن لم تكن عند الحاكم، و بمضيّ ثلاثين من الشهر السابق، و كذا بحكم الإمام المعصوم بلا إشكال.

و هل يثبت بحكم الحاكم الشرعي غير المعصوم مطلقا، أو لا يثبت مطلقا، أو يفصّل بين ما إذا ثبت له بشاهدين و بين ما إذا ثبت له برؤيته أو بعلمه؟

و على فرض الثبوت فهل يقتصر فيه على الإمام و الوالي الأعظم أو يكفي الفقيه المنصوب من قبله لعمل أو قضاء، أو يكفي في ذلك أيّ فقيه كان و إن لم يكن متصدّيا لعمل أو قضاء؟ في المسألة وجوه.

قال في الحدائق ما ملخّصه:

«قد صرّح جملة من الأصحاب منهم العلّامة و غيره بأنه لا يعتبر في ثبوت

______________________________

(1)- ولاية الفقيه، ج 2، ص 593.

مجمع الفوائد، ص: 426

الهلال بالشاهدين في الصوم و الفطر حكم الحاكم؛ بل لو رآه عدلان و لم يشهدا عند الحاكم وجب على من سمع شهادتهما و عرف عدالتهما الصوم أو الفطر ...

و الظاهر أنّ هذا الحكم لا ريب فيه و لا إشكال. و إنما الإشكال

في أنّه هل يجب على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده و حكم به أم لا بدّ من سماعه بنفسه من الشاهدين؟

ظاهر الأصحاب الأوّل بل زاد بعضهم كما سيأتي الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعي. و يظهر من بعض أفاضل متأخري المتاخرين العدم، قال: إنّه لا يجب على المكلف العمل بما ثبت عند الحاكم الشرعي هنا، بل إن حصل الثبوت عنده وجب عليه العمل بمقتضى ذلك و إلّا فلا. و ظاهر كلامه إجراء البحث في غير مسألة الرؤية أيضا، حيث قال: فلو ثبت عند الحاكم غصبيّة الماء فلا دليل على أنّه يجب على المكلّف الاجتناب عنه، و كذا لو حكم بأنّه دخل الوقت في زمان معين.» «1»

انتهى كلام الحدائق.

أقول: ظاهر إسناده القول الأوّل إلى ظاهر الأصحاب كونه مشهورا عندهم، و لكنّه- قدّس سرّه- بعد التعرّض لأدلّته و المناقشة فيها قال: «المسألة عندي موضع توقّف و إشكال.»

و الفاضل النراقي أيضا تعرّض للمسألة في المستند و تبع الحدائق في الإشكال فيها بل قوّى العدم. «2»

و قال الشهيد في الدروس:

«و هل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم.» «3»

و ظاهر كلامه عدم الفرق بين أنحاء مستند الحكم فيشمل رؤية الحاكم و علمه أيضا.

و في المدارك:

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة، ج 13، ص 258.

(2)- مستند الشيعة، ج 2، ص 132.

(3)- الدروس، ص 77.

مجمع الفوائد، ص: 427

«هل يكفي قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان: أحدهما نعم، و هو خيرة الدروس لعموم ما دلّ على أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه، و بأنّه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام، و العلم أقوى من البيّنة، و لأنّ المرجع في الاكتفاء

بشهادة العدلين و ما يتحقّق به العدل (العمل. ظ) إلى قوله فيكون مقبولا في جميع الموارد. و يحتمل العدم لإطلاق قوله عليه السّلام: «لا أجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين.» «1»

و ظاهر كلامه المفروغية من الثبوت بحكمه المستند إلى شهادة العدلين.

و في كفاية السبزواري:

«و في قبول قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال وجهان: أحدهما نعم و هو خيرة الدروس و هو غير بعيد.» «2»

و في كشف الغطاء:

«سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلّديه سواء حكم برؤية أو بيّنة أو غيرهما.» «3»

و في الجواهر:

«كما أنّ الظاهر ثبوته بحكم الحاكم المستند إلى علمه، لإطلاق ما دلّ على نفوذه و أنّ الرادّ عليه كالرادّ عليهم عليهم السّلام من غير فرق بين موضوعات المخاصمات و غيرها كالعدالة و الفسق و الاجتهاد و النسب و نحوها.» «4»

و في العروة الوثقى في بيان طرق ثبوت هلال رمضان و شوال قال:

«السادس: حكم الحاكم الذي لم يعلم خطأه و لا خطأ مستنده.» «5»

و لم يفرّق بين كون مستند حكمه البيّنة أو الرؤية أو غيرهما.

و في الفقه على المذاهب الأربعة:

______________________________

(1)- مدارك الاحكام، ص 370.

(2)- كفاية الأحكام، ص 52.

(3)- كشف الغطاء، ص 325.

(4)- جواهر الكلام، ج 16، ص 359.

(5)- العروة الوثقى، ج 2، ص 224، كتاب الصوم، فصل في طرق ثبوت هلال رمضان و شوال.

مجمع الفوائد، ص: 428

«لا يشترط في ثبوت الهلال و وجوب الصوم بمقتضاه على الناس حكم الحاكم، و لكن لو حكم بثبوت الهلال بناء على أيّ طريق في مذهبه وجب الصوم على عموم المسلمين و لو خالف مذهب البعض منهم، لأنّ حكم الحاكم يرفع الخلاف، و هذا متّفق عليه إلّا عند الشافعية.»

و في ذيل الخط:

«الشافعيّة قالوا:

يشترط في تحقيق الهلال و وجوب الصوم بمقتضاه على الناس أن يحكم به الحاكم، فمتى حكم به وجب الصوم على الناس و لو وقع حكمه عن شهادة عدل واحد.» «1»

أقول: ظاهر الصدر رجوع استثناء الشافعيّة إلى الحكم الثاني، أعني حجّية حكم الحاكم، و مقتضاه عدم حجيته عندهم و لكن بملاحظة الذيل يظهر رجوع الاستثناء إلى الحكم الأوّل، أعني عدم اشتراط حكم الحاكم في الشهادة و نحوها من الأمارات. و على هذا فحجية الحكم متّفق عليه عندهم.

فهذه بعض كلمات المتاخرين و لكن بعد الرجوع إلى عدّة من كتب الفقه من الشيعة و السنّة في باب الصوم نرى أنّ مسألة حجيّة حكم الحاكم و وجوب العمل بحكمه في الهلال غير معنونة في كثير من الكتب و لم يتعرّضوا لها في عرض سائر الأمارات مع كثرة الابتلاء بها في الصوم و الفطر و الحجّ في جميع الأعصار.

نعم، يظهر من فحوى كلماتهم في باب ما يثبت به الهلال أنّ حجيته كأنّها كانت مفروغا عنها عندهم، حيث ذكروا أنّ البيّنة أو العدل الواحد على القول باعتباره هل يعتبران مطلقا لكلّ أحد أو يتوقّف اعتبارهما على حكم الحاكم؟ فأصحابنا و أكثر علماء السنّة اعتبروا البيّنة لكلّ أحد و قالوا إنّه لا يشترط حكم الحاكم في حقّ من قامت عنده، و حكي عن الشافعيّة اعتبار حكمه. و لكن كان المناسب البحث في أصل المسألة أيضا، و كأنّهم تركوا البحث فيها هنا لعدم كون حكم الحاكم في عرض سائر الأمارات بل في طولها و مستندا إلى أحدها أو أنّ محلّ البحث في اختيارات الحاكم و حجيّة حكمه و موارد نفوذه كتاب الأمارة أو القضاء. هذا.

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 551.

مجمع

الفوائد، ص: 429

و لكن لا أظنّ كون الاعتذارين مبرّرين لترك عنوان المسألة في باب الصوم من الفقه، فتدبّر.

الفائدة الثانية: الاستدلال لنفوذ حكم الحاكم في الهلال و نقده

و كيف كان فهل ينفذ حكم الحاكم في الهلال أم لا؟ ذكروا في المسألة أقوالا ثالثها التفصيل بين ما إذا استند إلى البيّنة، و بين ما إذا استند إلى رؤية الحاكم و علمه كما مرّ من المدارك.

و استدلّ القائل بعدم الحجّية كما في المستند «1» بالأصل، و بالأخبار الكثيرة المعلّقة للصوم و الفطر على الرؤية أو الشاهدين أو مضى ثلاثين الظاهرة في الحصر، و بالأخبار الناهية عن إتباع الشكّ و الظنّ في أمر الهلال، و معلوم أنّ حكم الحاكم لا يفيد أزيد من الظن.

و يرد على ما ذكر أنّ الأصل لا يقاوم الدليل إن ثبت. و ظهور الأخبار في الحصر ممنوع، و مفهومها من قبيل مفهوم اللقب، و الحصر الظاهر في قول الصادق عليه السّلام: «إنّ عليا كان يقول:

لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» «2»، حصر إضافي في قبال شهادة النساء و شهادة العدل الواحد، كما هو واضح.

و مع قيام الدليل على اعتبار الحكم صارت حجيّته قطعيّة كسائر الأمارات المعتبرة، فلا يشمله ما دلّ على النهي عن إتباع الظن.

و لعلّ عدم تعرّض الأخبار هنا له لكونه في طول سائر الأمارات و مستندا إليها.

فالعمدة إقامة الدليل على اعتبار الحكم في المقام و أمثاله.

و استدلّ القائل بالحجيّة بإطلاق الأخبار الدّالة على وجوب الرجوع إلى الفقهاء المستند فقههم إلى أحاديث أهل البيت و قبول حكمهم، كقول الصادق عليه السّلام على ما في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه.» «3»

______________________________

(1)- مستند الشيعة، ج 2،

ص 132.

(2)- الوسائل، ج 7، ص 207، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(3)- الوسائل، ج 18، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 430

و قول صاحب الزمان- عجّل اللّه فرجه- على ما في التوقيع: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم.» «1»

و أمر الهلال من أظهر الحوادث العامّة الواقعة في جميع الأعصار.

إلى غير ذلك ممّا دلّ على وجوب الرجوع إلى نوّابهم عليهم السّلام.

و بصحيحة محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، و إن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم و أخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم.» «2»

قال في الحدائق بعد التّعرّض لهذين الدليلين ما ملخّصه:

«و أنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا، أمّا المقبولة و نحوها فإنّ المتبادر منها إنّما هو الرجوع فيما يتعلّق بالدعاوي و القضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام الشرعية.

و أمّا صحيحة محمّد بن قيس فالظاهر من لفظ الإمام فيها إنّما هو إمام الأصل أو ما هو الأعمّ منه و من أئمّة الجور و خلفاء العامّة المتولّين لأمور المسلمين.

نعم، للقائل أن يقول: إذا ثبت ذلك لإمام الأصل ثبت لنائبه لحقّ النيابة، إلّا أنّه لا يخلو أيضا من شوب الإشكال لعدم الوقوف على دليل لهذه الكليّة، و ظهور أفراد كثيرة يختصّ بها الإمام دون نائبه.

و بالجملة فالمسألة عندي موضع توقّف و إشكال لعدم الدليل الواضح في وجوب الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع.

ثمّ أنت خبير

أيضا بأنّ ما ذكروه من العموم أنّه لو ثبت عند الحاكم بالبيّنة نجاسة الماء و حرمة اللحم و لم يثبت عند المكلّف لعدم سماعه من البيّنة مثلا، فإنّ تنجيس الأوّل و تحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. كذا في كمال الدين، ص 484 ط. قم، و لكن لم أجد في الوسائل المطبوع لفظة (عليهم).

(2)- الوسائل، ج 7، ص 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 431

الحاكم، ينافي الأخبار الدّالة على أنّ كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر، و كلّ شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعلم الحرام بعينه فتدعه، حيث إنّهم لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين المذكورتين حكم الحاكم بذلك و إنّما ذكروا اخبار المالك و شهادة الشاهدين، و على ذلك تدلّ الأخبار أيضا.» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا من النقض بمثل نجاسة ماء أو حرمة لحم خاصّ و نحوهما من الموضوعات الجزئية الشخصيّة غير وارد، فإنّ أمر الهلال المتوقّف عليه صوم المسلمين و عيدهم و حجّهم و نحو ذلك يكون من الأمور المهمّة العامّة للمسلمين، و ليس أمرا جزئيّا شخصيا بل هو أمر يبتلي به مجتمع المسلمين حينا بعد حين، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام و الحكّام و القضاة في جميع الأعصار يهتمون به و كان تحقيقه و إثباته من وظائفهم التي يتولّونها، و لم يكن بناء المسلمين على اعتزال كلّ شخص و انفراده بصومه و فطره و وقوفه و إفاضته، بل كانوا يرجعون

فيها إلى ولاة الأمر من الحكّام و نوّابهم، كما يشهد بذلك السيرة المستمرة الباقية إلى أعصارنا و الروايات الكثيرة التي يأتي بعضها.

فأمور الحج مثلا كانت مفوّضة إلى أمير الحاجّ المنصوب من قبل الخلفاء لذلك، و ربّما كانوا هم بأنفسهم يتصدّون لها و الناس كانوا متابعين لهم، و لم يعهد أن يتخلّف مسلم عن أمير الحاجّ أو يسأل المسلمون حاكما عن مستند حكمه و أنّه البيّنة أو العلم الشخصيّ مثلا، و قد تحقّق في محلّه جواز حكم الحاكم بعلمه.

فإذا منع الإمام الصادق عليه السّلام في المقبولة عن الرجوع إلى قضاة الجور لكونهم طواغيت و جعل الفقيه من شيعته حاكما بدلهم لرفع حاجات الشيعة فيمكن أن يقال بنفوذ حكمه في كلّ ما كان يرجع فيه إلى القضاة في تلك الأعصار و الظروف و منها كان أمر الهلال قطعا كما هو كذلك في أعصارنا. و إذا أرجع صاحب العصر- عجّل اللّه فرجه- شيعته في الحوادث الواقعة لهم إلى رواة حديثهم فأيّ حادثة واقعة أهمّ و أشدّ ابتلاء من أمر الهلال الذي يبتلي به في يوم واحد مجتمع المسلمين؟

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مورد السؤال في المقبولة هو المنازعات في مثل الدين و الميراث

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة، ج 13، ص 259.

مجمع الفوائد، ص: 432

فلا يعمّ مثل الهلال، و قال عليه السّلام: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه.» و كون حكمه في الهلال هو حكمهم 7 أوّل الكلام، و لا يمكن إثباته بهذه الرواية، فإن الحكم لا يثبت موضوع نفسه، فتأمّل.

كما أنّ إرادة العموم في الحوادث الواقعة في التوقيع غير معلومة بعد كون الجواب مسبوقا بسؤال غير مذكور، و لعلّ المسؤول عنه كان حوادث خاصّة. و الجواب أيضا مجمل،

حيث لا يعلم أنّ الإرجاع هل هو في حكم الحوادث فيدلّ على حجيّة الفتوى أو فصلها و حسمها فيدلّ على نفوذ القضاء أو رفع إجمالها ليشمل المقام.

و يمكن دعوى انصرافها إلى خصوص الحوادث المهمّة التي لا مخلص فيها إلّا حكم الحاكم و ليس المقام منه لإمكان معرفة الهلال بغيره من الرؤية و الشهود و نحوهما. هذا.

و أما ما ذكره في الحدائق من حمل لفظ الإمام في الصحيحة على إمام الأصل فهو خلاف الظاهر جدّا يظهر ذلك لمن تتبّع موارد استعمال اللفظ في الأبواب المختلفة من الفقه و الحديث، كما مرّ كثير منها في الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع.

و قد عرفت سابقا أن أنس أذهان أصحابنا بإمامة الأئمة الاثنى عشر عليهم السّلام صار موجبا لتوهّم كون اللفظ موضوعا لهم أو منصرفا إليهم، مع أنّ لفظ الإمام وضع للقائد الذي يؤتمّ به في الصلاة أو الجهاد أو الحجّ أو جميع الشئون العامّة بحقّ كان أو بباطل.

فقد أطلق الإمام الصادق عليه السّلام اللفظ على أمير الحاجّ إسماعيل بن عليّ حين سقط هو عليه السّلام من بغلته حين الإفاضة من عرفات فوقف عليه إسماعيل فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: «سر، فإنّ الإمام لا يقف.» «1»

و في رسالة الحقوق لعليّ بن الحسين عليه السّلام: «و كل سائس إمام.» «2»

و بالجملة فالإمام هو القائد في شأن عامّ أو جميع الشؤون العامّة. و المراد به هنا الحاكم العدل و إن لم يكن معصوما كما يقتضيه إطلاق اللفظ، و إن كانت الأئمّة الاثنا عشر مع ظهورهم أحقّ بهذا المنصب الشريف عندنا.

و قد عرفت بالتفصيل أنّ الإمامة و شئونها داخلة في نسج الإسلام و نظامه و أنّها

______________________________

(1)- الوسائل، ج 8،

ص 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.

(2)- الخصال للصدوق، ص 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 433

لا تتعطّل في عصر من الأعصار. و تحقيق الهلال و إثباته و تعيين تكليف المسلمين في صيامهم و عيدهم و وقوفهم من أهمّ الوظائف العامّة.

الفائدة الثالثة: موارد تصدّي النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام لأمر الهلال

و قد تصدّى لأمر الهلال و تعيين تكليف المسلمين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عصره بما أنّه كان حاكما عليهم و كذلك أمير المؤمنين و جميع الخلفاء:

1- ففي سنن أبي داود بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:

«جاء أعرابي إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّي رأيت الهلال- قال الحسن في حديثه: يعني رمضان- فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتشهد أن لا إله إلّا اللّه؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنّ محمدا رسول اللّه؟ قال:

نعم. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا بلال، أذّن في الناس فليصوموا غدا.» «1»

2- و عن عكرمة:

«أنّهم شكّوا في هلال رمضان مرّة فأرادوا أن لا يقوموا و لا يصوموا، فجاء أعرابي من الحرّة فشهد أنّه رأى الهلال، فأتي به النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «أتشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه؟» قال: نعم، و شهد أنّه رأى الهلال، فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا و أن يصوموا.» «2»

و الخبران يرجعان إلى خبر واحد، و لعلّ ابن عباس سقط من الثاني.

3- و عن ابن عمر، قال:

«ترائى الناس الهلال فأخبرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّي رأيته فصام و أمر الناس بصيامه.» «3»

و لعلّ شهادة الأعرابي أو ابن عمر كانت

محفوفة بقرائن خارجيّة توجب الوثوق أو الاطمئنان، مضافا إلى ما للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من العلم و الإحاطة، فلا تنافي هذه الروايات لما دلّ

______________________________

(1)- سنن أبي داود، ج 1، ص 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

(2)- سنن أبي داود، ج 1، ص 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

(3)- سنن أبي داود، ج 1، ص 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

مجمع الفوائد، ص: 434

على اعتبار التعدّد في الشاهد.

و التفصيل بين هلال رمضان و هلال شوال بكفاية الواحد في الأوّل دون الثاني كما عن بعض فقهاء السّنّة ممنوع عند المشهور من أصحابنا. و التحقيق موكول إلى محلّه.

4- و عن رجل من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

«اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باللّه لأهلّا الهلال أمس عشيّة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس أن يفطروا و أن يغدوا إلى مصلّاهم.» «1»

5- و في المحلّى لابن حزم:

«روينا من طريق أبي عثمان النهدي، قال: قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعرابيان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أ مسلمان أنتما؟ قالا: نعم. فأمر الناس فأفطروا أو صاموا.» «2»

6- و روى ابن ماجة بسنده عن أبي عمير بن أنس بن مالك، قال:

«حدّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالوا: «أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار

فشهدوا عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يفطروا و أن يخرجوا إلى عيدهم من الغد.» «3»

و روى هذا الخبر بعينه في المصنّف، و فيه:

«فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس أن يفطروا من يومهم و أن يخرجوا لعيدهم من الغد.» «4»

7- و في الجواهر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«أنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابيّ إليه فشهد برؤية الهلال فأمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناديا ينادي «من لم يأكل فليصم، و من أكل فليمسك.» «5»

و لم أجد الرواية كذلك في كتب السنّة و لكن في صحيح مسلم:

______________________________

(1)- سنن أبي داود، ج 1، ص 546، كتاب الصيام، باب شهادة رجلين ...

(2)- المحلّى لابن حزم، ج 3، ص 237 (الجزء 6)، المسألة 757.

(3)- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 529، كتاب الصيام، الباب 6، الحديث 1653.

(4)- المصنف لعبد الرزاق، ج 4، ص 165، كتاب الصيام، باب أصبح الناس صياما و قد رئي الهلال، الحديث 7339.

(5)- الجواهر، ج 16، ص 197.

مجمع الفوائد، ص: 435

«بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذّن في الناس من كان لم يصم فليصم و من كان أكل فليتمّ صيامه إلى الليل.» «1»

8- و في الوسائل عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن سنان، عن رجل، قال:

«صام عليّ عليه السّلام بالكوفة ثمانية و عشرين يوما شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر مناديا ينادي اقضوا يوما فإنّ الشهر تسعة و عشرون يوما.» «2»

9- و في

أمّ الشافعي بسنده عن فاطمة بنت الحسين:

«أنّ رجلا شهد عند عليّ عليه السّلام على رؤية هلال رمضان فصام، و أحسبه قال: «و أمر الناس أن يصوموا» «3»

فيظهر من هذه الروايات أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام كانا يتصدّيان لأمر الهلال و صوم المسلمين و عيدهم، و يحكمان عليهم بالصوم و الفطر بعد ما ثبت الهلال عندهما.

و احتمال كون ذلك من خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة المعصومين عليه السّلام واضح البطلان لمن ثبت له عدم تعطيل الإمامة و شئونهما في عصر الغيبة و عدم جواز إهمال الشرع لهذا الأمر الخطير المبتلى به في جميع الأعصار. و لنا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسوة حسنة فيجب التأسّي به فيما لم يثبت اختصاصه به و كذلك الأئمّة عليهم السّلام.

10- و مضت صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم.» «4»

11- و في رواية رفاعة، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا ابا عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذلك إلى الإمام إن صمت صمنا، و إن أفطرت أفطرنا. فقال: يا غلام، عليّ بالمائدة فأكلت معه و أنا أعلم و اللّه أنّه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما و قضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي و لا يعبد اللّه.» «5»

______________________________

(1)- صحيح مسلم، ج 2، ص 798، كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء ...، الحديث 1135.

(2)- الوسائل، ج

7، ص 214، الباب 14 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(3)- الأمّ للشافعي، ج 2، ص 80.

(4)- الوسائل، ج 7، ص 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(5)- الوسائل، ج 7، ص 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 5.

مجمع الفوائد، ص: 436

و كون الإمام عليه السّلام في ظرف التقيّة لا يوجب حمل قوله عليه السّلام: «ذاك إلى الإمام» على التقيّة، فإنّه كبرى كليّة لم يكن ضرورة في بيانها لو لم تكن حقّا، و الضرورات تتقدّر بقدرها. و قضاؤه عليه السّلام لا ينافي صحّة العبادة المأتي بها عن تقيّة، فإنّ ترك الصوم ليس عملا وجوديّا حتّى يجزي عن الصوم الواجب.

12- و في رواية اخرى قال عليه السّلام: «فدنوت فأكلت، و قلت: الصوم معك و الفطر معك.» «1»

13- و في رواية ثالثة: «ما صومي إلّا بصومك و لا إفطاري إلّا بإفطارك.» «2»

14- و عن الصدوق بإسناده عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام في اليوم الذي يشكّ فيه، فقال عليه السّلام: «يا غلام، اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا.

فذهب ثمّ عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه.» «3»

و سند الصدوق الى ابن أبي منصور صحيح و هو أيضا ثقة.

و دلالة هذه الأخبار الكثيرة على أنّ أمر الهلال كان بيد الحاكم الإسلامي و أنّه كان من شئون الحكومة واضحة. و الناس كانوا متابعين لها في الصوم و الفطر و الحجّ، فكان للناس رمضان واحد و عيد واحد و موقف واحد و كان نظامها بيد الحاكم دفعا للاختلاف و الهرج و المرج.

و في الجواهر:

«إنّ احتمال العدم مناف لإطلاق الأدلّة و تشكيك

فيما يمكن تحصيل الإجماع عليه خصوصا في أمثال هذه الموضوعات العامّة التي هي من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكّام، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع و سياسته و بكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل، ج 7، ص 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 4.

(2)- الوسائل، ج 7، ص 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 6.

(3)- الوسائل، ج 7، ص 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 1.

(4)- الجواهر، ج 16، ص 360.

مجمع الفوائد، ص: 437

15- و في رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام: «أنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلمّا دخلت على أبي جعفر عليه السّلام و كان بعض أصحابنا يضحّي فقال عليه السّلام: الفطر يوم يفطر الناس، و الأضحى يوم يضحّي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس.» «1»

16- و في كنز العمّال عن الترمذي، عن عائشة:

«الفطر يوم يفطر الناس و الأضحى يوم يضحّي الناس.» «2»

17- و روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الصوم يوم تصومون و الفطر يوم تفطرون، و الأضحى يوم تضحّون.»

قال الترمذي:

«فسّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنّما معنى هذا: الصوم و الفطر مع الجماعة و عظم الناس.» «3»

و هذه الروايات و إن ضعف أكثرها من جهة السند و لكنّ الوثوق و الاطمئنان بصدور بعضها مضافا إلى صحّة البعض يكفي لإثبات أنّ أمر الهلال لم يكن أمرا فرديّا بل كان من الأمور العامّة التي كان الحاكم الإسلامي مصدرا لها و أمرا جماعيّا كان الحاكم نظاما

له.

و السيرة المستمرّة أيضا شاهدة على ذلك فكان الحاكم في جميع الأعصار مرجعا للناس في صومهم و فطرهم، و كان أمير الحاجّ المنصوب من قبل الإمام يأمر بالوقوف و الإفاضة، و الناس يتّبعونه.

و قد عدّ الماوردي خمسة تكاليف لأمير الحاجّ فقال:

«أحدها: إشعار الناس بوقت إحرامهم و الخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متّبعين و بأفعاله مقتدين.»

و ذكر مثله أبو يعلى. «4»

______________________________

(1)- الوسائل، ج 7، ص 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 7.

(2)- كنز العمال، ج 8، ص 489، الباب 1 من كتاب الصوم من قسم الأقوال، الحديث 23763.

(3)- سنن الترمذي، ج 2، ص 102، أبواب الصوم، الباب 11، الحديث 693.

(4)- الأحكام السلطانيّة، ص 110، باب ولاية الحجّ. و الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 112، فصل ولاية الحجّ.

مجمع الفوائد، ص: 438

و كان أئمّتنا المعصومون عليهم السّلام و أصحابهم أيضا في مدّة أكثر من مأتي سنة يحجّون في جماعة الناس، و لم يعهد و لم ينقل تخلّفهم عن الناس في الوقوف و الإفاضة و النحر و سائر الأعمال، و لو كان لبان و نقله المؤرّخون و الأصحاب.

و احتمال اتّفاقهم مع الناس و مع أمير الحاجّ في رؤية الهلال بأنفسهم في جميع هذه السنين بعيد جدّا.

و بذلك يظهر اجتزاء العمل بحكم الحاكم من أهل الخلاف أيضا و لا أقلّ في صورة عدم العلم بالخلاف.

و قد مرّ سابقا أنّ الحجّ لم يكن بدون أمير الحاجّ المنصوب لذلك، المتبوع في جميع المواقف.

و قد عقد المسعودي في آخر مروج الذهب بابا لتسمية من حجّ بالناس من سنة ثمان من الهجرة إلى سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة، فراجع «1».

______________________________

(1)- مروج الذهب، ج 2، ص 566.

مجمع

الفوائد، ص: 439

فروع [في الحكم في باب الهلال]

الفرع الأوّل: ملاك التصدي لأمر الهلال هل هو الفقاهة او الإمامة؟

لا يخفى أنّ الدليل على حجيّة حكم الحاكم في باب الهلال إن كان هو المقبولة أو التوقيع الشريف و نحوهما من العمومات فالموضوع فيها هو الفقيه من الشيعة المبتني فقهه على الكتاب و السّنة و أحاديث الأئمّة عليهم السّلام، فيعمّ كلّ فقيه واجد للشرائط سواء تصدّى للإمامة أو القضاء فعلا أو كان منعزلا عنهما.

و أما إذا كان الدليل هو الأخبار الخاصّة التي مرّت فالموضوع فيها هو الإمام، و الظاهر منه هو المتصدّي فعلا لمقام الإمامة و زعامة المسلمين. فشمول الحكم لعمّاله في البلاد و للقضاة المنصوبين من قبله محلّ إشكال.

و أشكل من ذلك الفقيه المنعزل عنهما فعلا و إن صلح لهما. اللّهم الّا أن يدّعى ثبوت الولاية الفعلية لكلّ فقيه و أنّ له كلّ ما كان للإمام بمقتضى أدلّة ولاية الفقيه، و لكن نحن ناقشنا في ذلك كما مرّ.

و لكن يمكن أن يقال: نحن نعلم أنّ إبلاغ حكم الخليفة و الإمام الأعظم إلى سائر الأمصار و البلاد في تلك الأعصار لم يكن يتيسّر عادة، فإذا استنبطنا من هذه الروايات و من السيرة المستمرّة إلى اليوم أنّ بناء الشرع كان على توحيد كلمة المسلمين في أمر الهلال و صومهم و عيدهم و مواقف حجّهم فلا محالة يجب أن يتصدّى لذلك في كلّ بلد من ينوب عنه من العمّال و القضاة كما هو المتعارف في أعصارنا في البلاد الإسلاميّة، حيث يتصدّى لأمر الهلال قاضي القضاة في كلّ بلد، و لا سيّما إذا قلنا بأنّه مع اختلاف الآفاق يكون لكلّ بلد حكم نفسه كما هو المشهور و الأقوى في المسألة.

مجمع الفوائد، ص: 440

و المناسب في باب الحجّ تصدّي أمير الحجّاج له و إن

لم يكن نفس الإمام، فيجوز بل يجب تصدّيهما له و لا سيّما إذا فوّض الإمام إليهما ذلك بالصراحة.

نعم، في النفس شي ء بالنسبة إلى القضاة و هو أنّ الماوردي و أبا يعلى لم يذكرا ذلك في عداد ما ذكراه من اختيارات القضاة، و لو كان الهلال أمرا مرتبطا بهم في تلك الأعصار كان المناسب تعرّضهما له كما تعرّضا له في ولاية الحج كما مرّ. هذا.

و قد يقال: إنّه يجب على الفقيه كفاية التصدّي له إذا لم يكن الهلال واضحا للناس و اختلفوا فيه، لأنّه من الأمور الحسبيّة التي لا يجوز إهمالها، و لأنّه باب من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و دفع الهرج و المرج. و يجب على الناس أيضا الرجوع إليهم في ذلك، لأنّه من الحوادث الواقعة التي أمروا بالرجوع فيها إلى رواة حديثهم.

أقول: مقتضى ذلك أن يجب مع عدم الفقيه تصدّي عدول المؤمنين له و نفوذ حكمهم فيه، و الظاهر أنّه لا يقول بذلك أحد، فتدبّر.

الفرع الثاني: ما هو الملاك في الحكم؟

الحكم عبارة عن إنشاء الإلزام بشي ء أو ثبوت أمر، و لا يتعيّن أن يقع بلفظ: «حكمت» او غيره من مشتقّات هذه المادّة أو ما يرادفه، بل يكفي فيه قوله: «اليوم من رمضان او شوال، او يجب عليكم صوم اليوم او الفطر فيه» و نحو ذلك مما هو حكم واقعا و بالحمل الشائع، فاللازم واقع الحكم لا مفهومه. و في كفاية قوله: «ثبت عندي» إشكال إذ ظاهره الخبر لا الإنشاء كما لا يخفى.

الفرع الثالث: اعتبار حكم الحاكم ليس بنحو السببيّة

ليس حكم الحاكم في الهلال و في سائر الموضوعات على القول به ملحوظا بنحو السببيّة في عرض الواقع و مغيّرا له، بل هو طريق شرعي إلى الواقع و حجّة عليه كسائر الأمارات و

مجمع الفوائد، ص: 441

الطرق، فلا مجال له مع العلم بالواقع سواء أصابه أم أخطأه. نعم، في باب المنازعات يجب التسليم لحكمه ظاهرا على المترافعين حسما لمادّة النزاع كما هو واضح.

و كذلك لا مجال للعمل به إذا علم بتقصير الحاكم في مقدّمات حكمه، لسقوطه بالتقصير عن أهليّة الحكم، و لقول الصادق عليه السّلام في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا.» إذ ليس المراد به العلم بكون حكمه حكمهم عليهم السّلام و إلّا كان وجوب القبول لذلك لا لأنّه حكمه. بل المراد كون حكمه على أساس حكمهم و موازينه بأن يستند إلى الكتاب و السنّة الصحيحة في قبال من يستند إلى الأقيسة و الاستحسانات الظنيّة فلا يصدق ذلك على من قصّر في مبادي حكمه، بل من غفل عنها و لو كان عن قصور، فتدبّر.

الفرع الرابع: الفرق بين فتوى المجتهد و حكم الحاكم

أنّ فتوى المجتهد حجة في حقّه و حقّ مقلّديه دون سائر المجتهدين. و أما حكمه في الهلال و نحوه على فرض حجيّته فلا ينحصر في حقّ مقلّديه بل يعمّ المجتهدين أيضا إذا أذعنوا باجتهاده و جامعيّته لشرائط الحكم و عدم تقصيره في مباديه.

و كذلك حكمه في المرافعات و لو كانت الشبهة حكميّة مختلفا فيها بين الفقهاء كما إذا اختلفا في منجّزات المريض مثلا و أنّها من الأصل أو من الثلث فترافعا إليه فحكم بالأصل مثلا فيكون حكمه نافذا حتّى في حقّ من يرى أنّها من الثلث، إذ حسم النزاع يقتضي وجوب الأخذ بحكم الحاكم للمترافعين و إن خالف نظر أحدهما اجتهادا

أو تقليدا.

و بالجملة فحكم الحاكم نافذ حتّى في حقّ سائر المجتهدين إذ الإمام عليه السّلام حكم في التوقيع الشريف بكونهم حجّة له عليه السّلام، و من الواضح أنّه لا يجوز لأحد مخالفة حجّة الإمام عليه السّلام.

و لدلالة المقبولة على وجوب قبوله و حرمة ردّه و أنّ ردّه ردّهم عليهم السّلام، و إطلاقه يشمل المجتهد أيضا. و مورد المقبولة هو الشبهة الحكميّة او الأعمّ، كما لا يخفى على من راجعها.

و لا ينتقض هذا بالفتوى، فإنّ الفتوى ليس إنشاء لحكم بل هو إخبار عمّا فهمه من الكتاب و السنّة فلا يكون حجّة في حقّ من يقدر على الاستنباط منهما، فتدبّر.

مجمع الفوائد، ص: 442

هذا كلّه مضافا إلى أنّ إمام المسلمين و المنصوب من قبله إذا حكم بحكم لتوحيد كلمة المسلمين و حفظ نظامهم كما هو كذلك في أمر الهلال فليس لأحد أن يفارق جماعتهم و يخالف الإمام و الوالي قيد شبر، مجتهدا كان أو مقلّدا، كما كان كذلك في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في عصر أمير المؤمنين عليه السّلام و إلّا لزم اختلال النظام و الهرج و المرج، و لتفصيل المسألة محلّ آخر. «1»

______________________________

(1)- ولاية الفقيه، ج 2، ص 593 إلى 610.

مجمع الفوائد، ص: 443

الفصل السادس: حجية البيّنة و العدل الواحد و الشياع

اشارة

و هو يشتمل على فوائد:

مجمع الفوائد، ص: 445

الفائدة الأولى: حجيّة البينة «1»

اشارة

فممّا قالوا بحجيّته في إثبات الموضوعات: البيّنة أعني شهادة عدلين إلّا في موارد خاصّة يحتاج فيها إلى شهادة أربع.

و استدلّ لذلك بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

و فيه منع ثبوته في غير باب المرافعات إذ المسألة خلافية. و لو سلّم يحتمل كونه مستندا إلى الوجوه الأخر فلا يكون دليلا مستقلا.

قال المحقّق النراقي في أواخر العوائد:

«عائدة: هل الأصل في شهادة العدلين وجوب القبول و العمل بمقتضاها إلّا ما أخرجه الدليل أو عدمه؟

ظاهر أكثر أصحابنا بل صريحهم سيّما المتاخرين منهم الأوّل، بل ربّما يظهر من بعضهم الإجماع عليه و كون اعتبار قولهما ثابتا من شريعتنا.

و المحكي عن القاضي عبد العزيز بن البراج، الثاني و اختاره بعض المتاخرين و هو الظاهر من غير واحد من مشايخنا المعاصرين حيث قالوا بعدم ثبوت النجاسة بقول العدلين لعدم دليل على اعتباره عموما، بل ظاهر السيد في الذريعة و المحقق الأوّل في المعارج، و الثاني في الجعفرية و صاحب الوافية حيث حكموا بعدم ثبوت

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 3، ص 385.

مجمع الفوائد، ص: 446

الاجتهاد بشهادتهما لعدم دليل على اعتبارها. و كنت على ذلك منذ أعوام كثيرة ...

و الحق هو الأوّل.» «1»

و بالجملة فالمسألة كانت خلافيّة.

الدليل الثاني لحجيّة البينة
[الثاني موثقة مسعدة بن صدقة]

الثاني و هو العمدة، موثقة مسعدة بن صدقة: فقد روى الكليني عن علي بن ابراهيم (عن أبيه- خ.) عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك. و ذلك مثل الثوب يكون (عليك- يب) قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك. و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة.»

و رواه الشيخ أيضا بإسناده

عن علي بن إبراهيم. «2»

و المذكور في التهذيب بطبعيه: علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم. و المتعارف في أسانيد الكافي أيضا كذلك. و لكن في الكافي هنا بعنوان النسخة: «عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم.»

و هارون بن مسلم من أصحاب الهادي و العسكري عليهما السّلام. و مسعدة بن صدقة من أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام فرواية هارون عنه بلا واسطة تتوقّف على أن يكون أحدهما طويل العمر. و هارون بن مسلم ثقة.

و اختلفوا في مسعدة، و أكثر المتاخرين على توثيقه. و يؤيّد ذلك كثرة رواياته و اعتناء الأصحاب بها و له كتب منها كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السّلام.

______________________________

(1)- العوائد، ص 273.

(2)- الكافي، ج 5، ص 313، باب النوادر من كتاب المعيشة، الحديث 40؛ و الوسائل، ج 12، ص 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

مجمع الفوائد، ص: 447

ما هو المستفاد من موثقة مسعدة؟

و المستفاد من الحديث أنّ يد البائع على الثوب أو العبد و إقرار العبد بالعبودية و أصالة عدم الانتساب أو الرضاع و إن كانت معتبرة في حدّ ذاتها و لكن إذا قامت البيّنة على خلافها قدّمت عليها فتكون حجّة في إثبات الموضوعات و مقدّمة على غيرها من الأصول و الأمارات كالعلم.

و قد صرّح بسريان هذا الحكم في جميع الأشياء و لا محالة يراد بها الموضوعات التي لها أحكام في الشرع نظير الأشياء المذكورة في الحديث.

و مقتضى الإطلاق عدم الفرق في حجيتها بين أن تقوم عند الحاكم أو غيره نظير ما نقول في باب الهلال، فالحجة نفس البيّنة و لا نحتاج إلى حكم الحاكم عقيبها.

و الإشكال في وثاقة مسعدة مرتفع بكثرة رواياته و اعتناء الأصحاب بها في فتاويهم

فتأمّل.

و احتمال أن يراد بالبيّنة معناها اللغوي أعني الحجة و الأمر الواضح لا معناها المصطلح في أعصارنا أعني شهادة العدلين كما في قوله- تعالى-: أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ* «1» و قوله:

حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ «2» بعيد في الغاية، إذ لو فرض عدم تبادر المعنى المصطلح في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ففي عصر الإمام الصادق عليه السّلام صار اللفظ قالبا لهذا المعنى كما يظهر لك بمراجعة أخبار باب القضاء بكثرتها.

و لو سلّم فلا إشكال في كون المعنى المصطلح من أظهر مصاديق معناها اللغوي بعد أنس الأذهان باعتماد الشارع عليه في باب المخاصمات لإثبات الحقوق، و عليه كان عمل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام و جميع الصحابة و التابعين فتدبّر.

الدليل الثالث لحجيّة البيّنة

الوجه الثالث: إلغاء الخصوصية بل الأولوية القطعيّة من حجيّتها في باب المرافعات و

______________________________

(1)- سورة هود (11)، الآية 17.

(2)- سورة البيّنة (98)، الآية 1.

مجمع الفوائد، ص: 448

المخاصمات إذ من الواضح حجيّة البيّنة في المرافعات و عليها يعتمد القضاة و يحكم بها للمدّعي مع كون المدّعى عليه ذا يد غالبا- و اليد أمارة عقلائية شرعية- و مع كون الأصل معه.

فإذا كانت حجّة مع وجود المعارض ففي غيره تكون حجّة بطريق أولى.

و ظاهر اعتبار الشارع لها في إثبات الحقوق و أسباب الحدود اعتبارها طريقا إلى الواقع و محرزا له فيثبت بها اللوازم و الملزومات أيضا كسائر الأمارات.

و قد كثرت الأخبار الواردة في إثبات الدعاوي و الحقوق و موجبات الحدود بالبيّنات.

و في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّما أقضي

بينكم بالبيّنات و الأيمان. الحديث» «1» اللّهم إلّا أن يراد بالبيّنة في كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مطلق الحجّة كما ربّما يشهد بذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد هذه الجملة: «و بعضكم ألحن بحجّته من بعض. الحديث» هذا.

و ليست الأيمان في عرض البيّنات إذ اليمين لا يثبت بها الواقع و لا تقبل من المدّعي إلّا في موارد خاصة و إنما يعتمد عليها للنفي قطعا للخصومة بعد ما لم يكن للمدّعي بينة على إثبات حقّه.

كيف؟ و بالبيّنات تسفك الدماء و تباح الأموال و تهتك الأعراض. و لو لا حجيّتها و إحرازها للواقع لم يترتب عليها هذه الآثار المهمّة.

نعم ربّما حدّد الشرع اعتبارها في بعض المقامات ببعض القيود لأهميتها فتراه مثلا اعتبر في الزنا و اللواط مثلا كون الشهود أربعة، و اعتبر الذكورة في بعض الموارد دون بعض، و لكن المستفاد من جميعها اعتبارها طريقا لإحراز الواقع و كاشفا عنه.

و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما قد يقال من أنّ الحجيّة في باب المرافعات لا تقتضي الحجيّة مطلقا إذ المرافعات لا بدّ من حلّها و فصلها لا محالة و إلّا لاختلّ النظام فلعلّ البيّنة جعلت حجّة فيها لذلك كالأيمان.

وجه المناقشة: أنّ الظاهر من أدلة البيّنة في المرافعات و في أبواب الحدود كونها وسيلة لإثبات الحقوق و موجبات الحدود فهي حجّة مطلقا و لذا يعتمد عليها في فصل القضاء لا أنّها جعلت لفصل القضاء فقط و الفرق بينها و بين الأيمان واضح كما مرّ فتأمّل.

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 169، الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم ...، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 449

الدليل الرابع لحجيّة البيّنة

الوجه الرابع: إلغاء الخصوصية من حجيّتها في موارد خاصّة

و منها النسب و نذكر في عدادها بعض الأخبار التي ربّما يستفاد منها الإطلاق و لا دليل قاطع على اختصاصها بباب الترافع:

1- كقوله- تعالى- في الطلاق: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ. «1»

2- و قوله في الوصية: شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ. «2»

3- و قوله في الدين: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. «3» إذ لو لا حجيّة قولهما كان إشهادهما لغوا و لا دليل على اختصاصهما بصورة الترافع إلى الحاكم فتأمّل.

4- و في خبر عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّ شي ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة.» «4» و لكن عبد اللّه بن سليمان مجهول الحال.

5- و في خبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السّلام قال: قضى عليّ عليه السّلام في رجل مات و ترك ورثة فأقرّ أحد الورثة بدين على أبيه أنّه يلزمه ذلك في حصته بقدر ما ورث و لا يكون ذلك في ماله كلّه. و إن أقرّ اثنان من الورثة و كانا عدلين أجيز ذلك على الورثة، و إن لم يكونا عدلين ألزما في حصتهما بقدر ما ورثا. و كذلك إن أقرّ بعض الورثة بأخ أو أخت إنما يلزمه في حصته.» «5»

6- و بالإسناد قال: قال عليّ عليه السّلام: «من أقر لأخيه فهو شريك في المال و لا يثبت نسبه، فإن أقرّ اثنان فكذلك، إلّا أن يكونا عدلين فيثبت نسبه و يضرب في الميراث معهم.» «6»

______________________________

(1)- سورة الطلاق (65)، الآية 2.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 106.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 282.

(4)- الوسائل، ج 17، ص 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة،

الحديث 2.

(5)- الوسائل، ج 13، ص 402، الباب 26 من كتاب الوصايا، الحديث 5.

(6)- الوسائل، ج 13، ص 402، الباب 26 من كتاب الوصايا، الحديث 6.

مجمع الفوائد، ص: 450

7- و قال الصدوق: و في حديث آخر: «إن شهد اثنان من الورثة و كانا عدلين أجيز ذلك على الورثة، و إن لم يكونا عدلين ألزما ذلك في حصتهما.» «1»

8- و في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إنّما جعلت البيّنات للنسب و المواريث.» «2»

9- و في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «صم لرؤية الهلال و أفطر لرؤيته، و إن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه.» «3»

10- و في صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم، الحديث» «4» و الأخبار في باب الهلال كثيرة فراجع.

11- و في مرسلة يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، الحديث» «5»

12- و في خبر علقمة عن الصادق عليه السّلام: «فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا او لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا، الحديث» «6» و المقصود قبول شهادته جزءا من البيّنة فتدبّر.

13- و في خبر العسكري عليه السّلام في تفسيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في قوله- تعالى-:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. قال: «ليكونوا من المسلمين منكم فإنّ اللّه إنّما شرّف المسلمين العدول بقبول شهادتهم، و جعل ذلك من الشرف العاجل لهم و

من ثواب دنياهم.» «7»

14- و قال الصادق عليه السّلام: «إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل و هي نصف

______________________________

(1)- الوسائل، ج 13، ص 402، الباب 26 من كتاب الوصايا، الحديث 7.

(2)- الوسائل، ج 14، ص 67، الباب 43 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(3)- الوسائل، ج 7، ص 183، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 8.

(4)- الوسائل، ج 7، ص 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(5)- الوسائل، ج 18، ص 176، الباب 7 من أبواب كيفيّة الحكم ...، الحديث 4.

(6)- الوسائل، ج 18، ص 292، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 13.

(7)- الوسائل، ج 18، ص 295، الباب 42 من أبواب الشهادات، الحديث 22.

مجمع الفوائد، ص: 451

شهادة و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد.» و بمضمونه روايات أخر «1».

إلى غير ذلك من الأخبار التي ربّما يعثر عليها المتتبع. هذا.

الاستدلال في العوائد بروايات أخر و نقده

و في العوائد استدل أيضا بقول الصادق عليه السّلام لابنه إسماعيل: «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» «2» بتقريب أن الجمع المعرّف و استغراقه أفرادي لا جمعي فالمعنى كل مؤمن شهد عندك فصدّقه خرج المؤمن الواحد بالدليل فيبقى الباقي.

مع أنّ إرادة العموم الجمعي هنا منتفية قطعا لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين بل و لا نصفهم و لا ثلثهم بل و لا عشرهم و لا واحد من ألف منهم.

أقول: الاستدلال بالحديث للشياع أنسب و سيجي ء البحث فيه.

و استدل فيه أيضا بالأخبار الكثيرة المصرّحة بجواز شهادة المملوك و المكاتب و الصبيّ بعد الكبر و اليهودي و النصراني بعد الإسلام و الخصيّ و الاعمى و الأصمّ و الولد و الوالد و الوصيّ

و الشريك و الأجير و الصديق و الضيف و المحدود إذا تاب و غير ذلك ممّا لا يخفى.

أقول: الظاهر عدم الإطلاق في هذه الأخبار لعدم كونها في مقام البيان فلعلّها ناظرة إلى باب الترافع.

هذا ما عثرنا عليه إجمالا من الأدلّة على حجيّة البيّنة في جميع الأبواب.

و هل يشترط في شهود النسب الذكورة أو يكفي شهادة رجل و امرأتين كما في الأموال؟

وجهان: من عدم كون المقصود بالأصالة المال و من استتباعه للميراث.

و الشيخ في شهادات الخلاف (المسألة 4) عدّ النسب في عداد ما يعتبر في شهوده الذكورة. «3» و هكذا صنع في شهادات المبسوط أيضا و لكن قال بعد ذلك: «و قال بعضهم:

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 298، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 5 و ...

(2)- الوسائل، ج 13، ص 230، الباب 6 من كتاب الوديعة، الحديث 1.

(3)- الخلاف، ج 3، ص 326.

مجمع الفوائد، ص: 452

يثبت جميع ذلك بشاهد و امرأتين و هو الأقوى إلا القصاص.» «1»

و تفصيل المسألة يطلب من كتاب الشهادات.

الفائدة الثانية: هل العدل الواحد حجة؟

[حجيّة العدل الواحد في الموضوعات]

هذا كلّه في حجيّة البيّنة في المقام و أما العدل الواحد فلم يتعرّض له المصنف في المقام.

و قد يقال بعدم حجيّته في الموضوعات و إن كان حجّة في إثبات الأحكام الشرعية الكليّة.

و يؤيّد ذلك ظهور الموثقة في حصر ما يثبت به الأشياء في الاستبانة و البيّنة، و لو كان العدل الواحد حجّة كان اعتبار التعدّد في الشاهد لغوا، و هذا البيان يجري في كلّ مورد كان التعدّد في الشهود معتبرا. هذا.

و في قبال ذلك ما قد يقال بحجيّته أيضا لقيام سيرة العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار على العمل بخبر الثقة و عليه استقر بناؤهم عملا في جميع مسائل الحياة.

كيف؟! و

إذا كان خبر الثقة حجّة في إثبات الأحكام الشرعية الكليّة مع أهميّتها فالأولويّة القطعيّة تقتضي حجيّته في الموضوعات أيضا.

و يشهد لذلك بإلغاء الخصوصيّة ما دلّ على اعتباره في موارد خاصّة:

1- كموثقة سماعة قال: سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إنّ هذه امرأتي و ليست لي بيّنة فقال: «إن كان ثقة فلا يقربها، و إن كان غير ثقة فلا يقبل منه.» «2»

2- و خبر حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول: إني لم أطأها فقال: «إن وثق به فلا بأس أن يأتيها.» «3» و نحوه غيره فراجع الباب.

______________________________

(1)- المبسوط، ج 8، ص 172.

(2)- الوسائل، ج 14، ص 226، الباب 23 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الحديث 2.

(3)- الوسائل، ج 14، ص 503، الباب 6 من ابواب نكاح العبيد و الإماء، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 453

3- صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في مسألة عزل الوكيل قال عليه السّلام: «نعم، إنّ الوكيل إذا و وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا و الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة.» «1»

4- موثقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير و كان مريضا فقال لي: إن حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا و أعط أخي بقية الدنانير فمات و لم أشهد موته فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك:

انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير اقسمها

في المسلمين، و لم يعلم أخوه إنّ عندي شيئا. فقال عليه السّلام: «أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير.» «2»

5- ما دلّ على جواز الصلاة بأذان الثقة و أنّ المؤذن مؤتمن. فراجع الوسائل. «3»

إلى غير ذلك من الروايات التي ربّما يعثر عليها المتتبع.

نقد ما أستدل به لحجية العدل الواحد

أقول: أولا: إن مورد الموثقة صورة وجود اليد في قبال البيّنة فلأحد أن يقول إنّ في مثل هذه الصورة يتعيّن التعدّد في الشاهد و لا يكفي الواحد فليس هذا دليلا على عدم حجيّة العدل الواحد مطلقا فتأمّل.

و ثانيا: الحق أنّ بين خبر العدل و خبر الثقة عموما من وجه فحجيّة أحدهما لا تفيد حجيّة الآخر في محلّ افتراقهما.

و ثالثا: الظاهر أنّ بناء العقلاء و سيرتهم ليس مبنيّا على التعبّد و إنّما يعملون في أمورهم المختلفة بخبر الثقة إذا حصل لهم الوثوق شخصا بحيث تطمئن النفس و تسكن. و الوثوق عند العقلاء مرتبة من العلم و الاستبانة.

و أمّا البيّنة فهي حجّة تعبديّة من قبل الشارع و إن لم يحصل بها الوثوق شخصا بل مع

______________________________

(1)- الوسائل، ج 13، ص 286، الباب 2 من كتاب الوكالة، الحديث 1.

(2)- الوسائل، ج 13، ص 482، الباب 97 من كتاب الوصايا، الحديث 1.

(3)- الوسائل، ج 4، ص 618، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة.

مجمع الفوائد، ص: 454

الظنّ بالخلاف أيضا و لذا عطفت في الموثقة على الاستبانة، و ظاهر العطف المغايرة.

و يمكن أن تحمل الأخبار الواردة في موارد خاصّة أيضا على صورة حصول الوثوق شخصا، إذ تعليق الحجيّة فيها على كون المخبر ثقة أو مسلما صادقا ربّما يشهد بكون الملاك الوثوق بقوله و الاطمئنان بصدقه.

و بالجملة فخبر الثقة الذي يحصل الوثوق بقوله حجة عند العقلاء و أمضاها

الشرع و يكون من مصاديق الاستبانة عندهم.

و أمّا خبر العدل الواحد إذا لم يحصل الوثوق بقوله لجهة من الجهات فلا دليل على اعتباره بل يظهر من قول الصادق عليه السّلام: «إذا شهد رجل على شهادة رجل فإنّ شهادته تقبل و هي نصف شهادة و إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد» «1» أنّه لا اعتبار بخبر الواحد وحده و كيف كان فاعتباره محلّ تأمّل و إشكال. هذا.

و لكن لأحد أن يقول: إنّ ما ذكرت من اعتبار الوثوق الشخصي في خبر الثقة إنّما هو في الأمور الشخصيّة و أما في الأمور المرتبطة بباب الإطاعة و العصيان و الاحتجاج و اللّجاج و روابط الموالي و العبيد فالملاك هو الوثوق النوعي كما قالوا في حجيّة الظواهر إذ إناطة الحجيّة في مثلها على الوثوق الشخصي يوجب تخلف العبيد عن الإطاعة باعتذار عدم حصول الوثوق شخصا و هذا يوجب انثلام نظام الاحتجاج و المؤاخذة، فلو قلنا بحجيّة خبر الثقة فلا بدّ من حمل الوثوق فيه على الوثوق النوعي فتدبّر.

الفائدة الثالثة: الشياع و فتاوى الشيعة و السنة فيه

[كلمات الأصحاب في الشياع]

«ثم تعرض الشيخ لبحث حجيّة الشياع و أشار الاستاذ- دام ظلّه- بهذه المناسبة إلى امور، ثم اختار ما هو الحق عنده:»

1- قال الشيخ في شهادات الخلاف (المسألة 15):

«يجوز الشهادة على الوقف و الولاء و العتق و النكاح بالاستفاضة كالملك

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 298، الباب 44 من أبواب الشهادات، الحديث 5.

مجمع الفوائد، ص: 455

المطلق و النسب. و للشافعي فيه وجهان: فقال الإصطخري مثل ما قلناه. و قال غيره: لا يثبت شي ء من ذلك بالاستفاضة و لا يشهد عليها بذلك. دليلنا إنّه لا خلاف أنّه يجوز لنا الشهادة على أزواج النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم و لم يثبت ذلك إلّا بالاستفاضة لأنا ما شهدناهنّ. و أمّا الوقف فمبني على التأييد فإن لم يجز الشهادة بالاستفاضة أدى إلى بطلان الوقف لأنّ شهود الوقف لا يبقون أبدا ...» «1»

أقول: المراد بالاستفاضة الشياع المصطلح.

2- و أفتى الشيخ في قضاء المبسوط بثبوت النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق بالاستفاضة.

و أنكر ثبوت الولاية بها إلّا إذا بلغت إلى حدّ يوجب العلم. «2» و مقتضى كلامه هذا حجيّة الاستفاضة في الستّة المذكورة و إن لم توجب العلم.

3- و في قضاء الشرائع:

«تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة. و كذا يثبت بالاستفاضة: النسب و الملك المطلق و الموت و النكاح و الوقف و العتق.» «3»

4- و في الشهادات من الشرائع:

«و ما يكفي فيه السماع فالنسب و الموت و الملك المطلق لتعذر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب و يتحقّق كلّ واحد من هذه بتوالي الأخبار من جماعة لا يضمّهم قيد المواعدة أو يستفيض ذلك حتى يتاخم العلم و في هذا عندي تردّد.» «4»

أقول: هل يرجع ترديد الشرائع إلى أصل اعتبار الاستفاضة أو إلى جواز الشهادة بها إذا لم تفد العلم؟ و لعل الثاني أظهر.

و يظهر من بعض فقهائنا إلحاق الرق و العدالة بما ذكر فتكون عشرة.

______________________________

(1)- الخلاف، ج 3، ص 331.

(2)- المبسوط، ج 8، ص 86.

(3)- الشرائع، ج 4، ص 70 (- طبعة اخرى، ص 862)

(4)- الشرائع، ج 4، ص 133 (- طبعة اخرى، ص 918).

مجمع الفوائد، ص: 456

5- و في شهادات الجواهر بعد التعرّض للعشر قال:

«بل قيل بزيادة سبعة عشر إليها و هي العزل و الرضاع و تضرّر الزوجة و التعديل و الجرح و الإسلام و الكفر و الرشد و

السفه و الحمل و الولادة و الوصاية و الحرّية و اللوث و الغصب و الدين و الإعسار.» «1»

6- و في الشهادات من مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:

«و ما تظاهرت به الأخبار و استقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب و الولادة.»

أقول: ظاهره اعتبار العلم في الشهادة.

7- و ذيّله في المغني بقوله:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، مجمع الفوائد، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

مجمع الفوائد؛ ص: 456

«هذا النوع الثاني من السماع و هو ما يعلمه بالاستفاضة. و أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب و الولادة. قال ابن المنذر: أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه ...

و اختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب و الولادة فقال أصحابنا: هو تسعة أشياء: النكاح و الملك المطلق و الوقف و مصرفه و الموت و العتق و الولاء و الولاية و العزل، و بهذا قال أبو سعيد الإصطخري و بعض أصحاب الشافعي. و قال بعضهم: لا تجوز في الوقف و الولاء و العتق و الزوجية لأنّ الشهادة ممكنة فيه بالقطع فإنها شهادة بعقد فأشبه سائر العقود.

و قال أبو حنيفة: لا تقبل إلّا في النكاح و الموت و لا تقبل في الملك المطلق ...» «2»

أقول: لا يخفى أنّ ظاهر أكثر كلمات أصحابنا و كذا ابن قدامة أنّه لا يتوقّف اعتبار الاستفاضة على حصول العلم بسببها و إلا لم يكن مجال للبحث فيها و الخلاف في موردها إذ العلم حجة بذاته في أيّ مقام حصل.

نعم لأحد أن يقول بحجيّتها في مقام العمل و لكن لا يجوز الشهادة بمضمونها إلّا إذا حصل العلم كما يأتي من

الجواهر.

______________________________

(1)- الجواهر، ج 41، ص 132.

(2)- المغني، ج 12، ص 23.

مجمع الفوائد، ص: 457

حقيقة الشياع و أدلة حجيّته و حدودها

[تعريف الاستفاضة و بيان حقيقتها]

إذا عرفت ذلك فنقول: يقع البحث هنا في أمور:

الأوّل: في تعريف الاستفاضة و بيان حقيقتها.

الثاني: في أدلّة حجيّتها.

الثالث: في أنّه هل تكون حجّة مطلقا او بشرط حصول العلم او بشرط حصول الظن.

أما الأوّل: ففي المسالك: «هي إخبار جماعة لا يجمعهم داعية التواطي عادة يحصل بقولهم العلم بمضمون خبرهم.» «1»

أقول: سيأتي البحث حول كلامه- قدس سره-.

و الظاهر أن مقصودهم بالاستفاضة و الشياع ليس مجرد جريان المضمون على الألسن و الأفواه كما ربّما نراه في الشائعات الاجتماعية التي لا أساس لها و يتداولها الألسن لمصالح سياسيّة بلا تصديق لمضمونها.

بل المقصود شيوع الحكم و التصديق بالنسبة الحكميّة من قبل المخبرين كتصديقهم بأنّ زيدا ابن لعمرو او أنّ الأرض ملك لزيد او وقف على المسجد مثلا و نحو ذلك.

الأمر الثاني: في أدلة حجيّتها فنقول: قد استدلّوا لذلك بوجوه:

الدليل الأوّل و نقده

الأوّل: أنّ هذا السنخ من الأمور ممّا يتعذّر أو يتعسّر غالبا إقامة البيّنة عليها.

قال في المسالك في وجه تخصيص المصنّف اعتبار الاستفاضة بالسبعة المذكورة:

«و وجه تخصيصها من بين الحقوق أنّها أمور ممتدّة و لا مدخل للبيّنة فيها غالبا:

فالنسب غاية الممكن فيه رؤية الولادة على فراش الإنسان لكن النسب إلى

______________________________

(1)- المسالك، ج 2، ص 354.

مجمع الفوائد، ص: 458

الأجداد المتوفين و القبائل القديمة ممّا لا يتحقّق فيه الرؤية و معرفة الفراش فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع ...

و أما الملك فإنّ أسبابه متعدّدة، و تعدّدها يوجب عسر الوقوف عليها فيكتفي فيه بالتسامع أيضا.

و أما الموت فلتعذّر مشاهدة الميّت في أكثر الأوقات للشهود.

و الوقف و العتق لو لم يسمع فيهما الاستفاضة لبطلا على تطاول الأوقات لتعذّر بقاء الشهود في مثل الوقف، و الشهادة الثالثة غير مسموعة فمسّت الحاجة إلى إثباتهما بالتسامع.

و مثلهما النكاح

فإنّا نعلم أن خديجة زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس مدركه التواتر لأنّ شرطه استواء الطرفين و الوسائط في العلم الحسي و هو منفي في الابتداء لأنّ الظاهر أنّ المخبرين لم يخبروا عن المشاهدة بل عن السماع ...» «1» هذا.

و أجاب في مصباح الهدى عن هذا الوجه بأنّه لو تمّ لكان حكمة لتشريع اعتبار الشياع لا طريقا لإثبات اعتباره كما هو المدّعى. «2»

أقول: مرجع ما ذكره في المسالك إلى ادعاء الانسداد الصغير بدعوى العلم إجمالا بالتكليف، و عدم إمكان إحراز الموضوع بالعلم و لا بالبيّنة، و الإهمال لا يجوز، و الاحتياط متعسّر أو موجب لاختلال النظام، فدعت الحاجة إلى إحرازه بالاستفاضة، و لو فرض تحقّق مقدمات الانسداد بأجمعها لم يكن بدّ من حجّيّتها حكومة أو كشفا فالدليل على هذا تامّ.

و لكن الكلام في تحقق المقدمات بأجمعها إذ على فرض تعذّر العلم الجازم فالوثوق ممّا يمكن تحقّقه غالبا و هو علم عادي يعتمد عليه العقلاء في أمورهم.

و لو سلّم عدم إمكانه فلم لا يرجع إلى الظنّ المطلق و يرجع إلى خصوص الشياع؟

و لو سلّم فلعلّ الواجب في أمثال المقام هو الاحتياط، و إيجابه لاختلال النظام يمكن منعه فتدبّر.

______________________________

(1)- المسالك، ج 2، ص 354.

(2)- مصباح الهدى، ج 10، ص 294.

مجمع الفوائد، ص: 459

الدليل الثاني و نقده

الوجه الثاني: ما يظهر من المسالك أيضا و محصّله:

«أنّ أدنى مراتب البيّنة لا يحصل بها الظنّ الغالب المتاخم للعلم، و الشياع ربّما يحصل منه ذلك فيكون أولى منها بالحجيّة و إن لم يحصل منه في بعض الأحيان لأنّ مفهوم الموافقة يكفي في المرتبة الدنيا من البيّنة بالقياس إلى الشياع.» «1»

أقول: هذا استدلال عجيب إذ لم يظهر لنا من

أدلّة حجيّة البيّنة أنّ وجه اعتبارها إفادتها للظنّ و لا ندري ما هو الملاك في حجيّتها و إطلاق دليل الحجيّة يعمّ صورة الظن بالخلاف أيضا، و لو سلّم فهي حكمة للجعل لا علّة حتى يتعدى منها فما ذكره أشبه شي ء بالقياس الذي لا نقول به.

الدليل الثالث و نقده

الوجه الثالث: السيرة المستمرة في جميع الأعصار على إثبات الأنساب و نحوها بالشياع و الاستفاضة فترى العقلاء يحكمون بالتحاق من ينتسب إلى أب او أمّ او طائفة او قبيلة و يرتبون عليه آثاره، و استقر هذا الأمر من عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى يومنا هذا من غير نكير، و لا طريق لهم في هذا الحكم إلّا الشياع في المحلّ.

أقول: يمكن أن يناقش هذا الوجه أيضا بأنّ العقلاء يحصل لهم غالبا الوثوق و الاطمئنان بسبب الشياع إذا لم يسبق عامل تشكيك في البين و كانت أذهانهم باقية على صرافتها، ففي الحقيقة هم يعملون بوثوقهم الذي هو في حكم العلم عندهم.

و أما إذا سبق في البين عامل تشكيك و حصل لهم الشك واقعا فهل يعتمدون في هذه الصورة أيضا على الشياع بنفسه بحيث يكون أمارة تعبديّة عندهم؟

فيه إشكال بل منع إذ الظاهر أنّ أعمال العقلاء ليست مبنيّة على التعبّد و إنما يعمل كلّ واحد منهم بعلمه و وثوقه.

______________________________

(1)- المسالك، ج 2، ص 355.

مجمع الفوائد، ص: 460

و لم يعهد من العقلاء تشكيل مجمع تقنيني لجعل أمارات تعبّدية و أصول عقلائية يتعبّدون بها و لو مع عدم حصول العلم و الوثوق.

و ليس معنى الأخذ بطريق العقلاء أنّ كلّ واحد منهم يقلّد غيره من العقلاء تعبّدا بل المقصود أنّ كلّ واحد منهم يأخذ بما يحكم به عقله و دركه

فتدبّر.

الدليل الرابع لحجيّة الشياع
الوجه الرابع: مرسلة يونس

التي رواها المشايخ الثلاثة: ففي الكافي: عليّ بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن البيّنة إذا أقيمت على الحقّ أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة إذا لم يعرفهم من غير مسألة؟ قال: فقال:

«خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا بها ظاهر الحكم: الولايات و التناكح و المواريث و الذبائح و الشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه.» «1»

و رواها الشيخ أيضا في موضعين من التهذيب و في الإستبصار و فيه و في موضع من التهذيب «أن يأخذوا بها بظاهر الحال.» «2»

و رواها الصدوق أيضا في الفقيه و في الخصال و فيهما: «بظاهر الحكم» و ذكر في الفقيه بدل المواريث: «الأنساب» و راجع الوسائل أيضا. «3»

و تقريب الاستدلال بها أنّ المراد بظاهر الحكم هو الحكم الظاهر بين الناس أعني النسبة الحكميّة الشائعة عندهم كقولهم مثلا: هذا هاشمي، أو هذا ملك لزيد أو وقف على المسجد و نحو ذلك.

و أوضح من ذلك في الدلالة على الشياع ظاهر الحال المذكور في الإستبصار و موضع من

______________________________

(1)- الكافي، ج 7، ص 431، باب النوادر من كتاب القضاء و الأحكام، الحديث 15.

(2)- التهذيب، ج 6، ص 283 و 288، كتاب القضايا و الأحكام، باب البيّنات، الحديث 186، و باب الزيادات ...، الحديث 5؛ و الإستبصار، ج 3، ص 13، الباب 1 من كتاب الشهادات، الحديث 3.

(3)- الفقيه، ج 3، ص 9 (- طبعة اخرى، ج 3، ص 16)، الباب 11 من أبواب القضايا و الأحكام، الحديث 1؛ الخصال، ص 311، باب الخمسة، الحديث 88؛ و الوسائل، ج 18، ص

212، الباب 22 من أبواب كيفيّة الحكم ...، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 461

التهذيب بأن يراد به الحال الظاهر في المجتمع.

و المراد بالولايات كون شخص خاصّ واليا او قاضيا من قبل الإمام، و من المناكح كون هذا زوجا لهذه أو هذه زوجة لذلك، و من الذبائح كون ما في سوق المسلمين حلالا مذكّى، و من الشهادات جواز الشهادة بما شاع و استفاض، و من المواريث توريث من انتسب إلى أب او أم او طائفة فيكون هذا دليلا على ثبوت النسب بالشياع، و أظهر من ذلك إن كانت النسخة: «الأنساب» بدل المواريث.

نقد الدليل الرابع لحجيّة الشياع

أقول: للمناقشة في هذا الدليل أيضا مجال واسع و إن تمسّك به في الجواهر و غيره، إذ يرد عليه أولا: أنّ السند مرسل و إن أمكن أن يقال: إنّ التعبير ببعض رجاله يظهر منه أن الراوي من أصحاب يونس فيستفاد منه نحو مدح له.

و ثانيا: أنّ المتن مختلف كما مرّ. و ثالثا: أن سؤال السائل لمّا كان عن جواز اعتماد القاضي على الشهود مع عدم معرفتهم فلا بدّ أن يكون الجواب مطابقا للسؤال فيشبه أن تكون النسخة الصحيحة: «ظاهر الحال» و أراد الإمام عليه السّلام بيان أنّ ظاهر حال المسلم بما أنّه مسلم، العدالة و عدم الفسق، و هذا هو الذي عبّر عنه الفقهاء بكفاية حسن الظاهر فيجوز جعله واليا او يقبل دعواه الولاية و كذا يجوز المزاوجة معه او يقبل دعواه في الزوجية و كذا في الانتساب و يحكم بحلّية ذبيحته و تقبل شهادته، و لا ارتباط لهذه الأمور بالشياع المفسّر بإخبار جمع كثير بمضمون واحد. كيف؟! و هل يتوقّف حليّة ذبيحة المسلم مثلا على إخبار جمع كثير بها اللّهم إلّا أن يراد

الإخبار بكونه مسلما حتى تحلّ ذبيحته.

الدليل الخامس لحجيّة الشياع
الوجه الخامس: قصة إسماعيل بن جعفر عليه السّلام

المروية بسند صحيح.

فعن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد بن عيسى عن حريز قال: «كانت لإسماعيل بن أبي عبد اللّه عليه السّلام دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن،

مجمع الفوائد، ص: 462

فقال إسماعيل: يا أبة إنّ فلانا يريد الخروج إلى اليمن و عندي كذا و كذا دينار، أ فترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا بني أ ما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس. فقال: يا بني لا تفعل. فعصى إسماعيل أباه و دفع إليه دنانيره فاستهلكها و لم يأته بشي ء منها، فخرج إسماعيل و قضى أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام حجّ و حجّ إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت و يقول: اللّهم آجرني و اخلف عليّ فلحقه أبو عبد اللّه عليه السّلام فهمزه بيده من خلفه و قال له: يا بني فلا و اللّه ما لك على اللّه هذا، و لا لك أن يأجرك و لا يخلف عليك و قد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته، فقال إسماعيل: يا أبة إني لم أره يشرب الخمر إنّما سمعت الناس يقولون، فقال: يا بني إنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول في كتابه: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم و لا تأتمن شارب الخمر، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول في كتابه: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب و لا يشفع إذا شفع و لا يؤتمن على أمانة

فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على اللّه أن يأجره و لا يخلف عليه.» «1»

فمفاد هذه الصحيحة أنّ شياع أمر بين الناس و شهادة المؤمنين به أمارة معتبرة على ما شاع فيجب ترتيب الأثر عليه فإذا شهدوا مثلا بكون أحد شاربا للخمر صار مصداقا لما دلّ على أنّ شارب الخمر لا يزوّج و لا يشفّع و لا يؤتمن. و لا تنحصر حجيّته في موضوع خاصّ كشارب الخمر مثلا، بل تجري في كلّ مورد تحقّق الشياع و الاستفاضة كما هو الظاهر من الصحيحة.

و الظاهر أنّ إسماعيل لم يحصل له العلم و لا الوثوق من الشياع و إلّا لم يكن يتخلّف عن علمه و وثوقه في ماله الذي كان يهتمّ به كثيرا فيستفاد من الحديث حجيّة الشياع و لو لم يفد العلم و لا الوثوق.

نقد اعتماد العلمين: النراقي و صاحب الجواهر على الدليل الخامس

أقول: لعلّ هذا الدليل أحسن ما أستدل به في المقام، و اعتمد عليه صاحب الجواهر

______________________________

(1)- الوسائل، ج 13، ص 230، الباب 6 من كتاب الوديعة، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 463

أيضا. «1»

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الشياع بين الناس أمر و شهادة المؤمنين بما هم مؤمنون أمر آخر، إذ شهادة المؤمنين تكون من مصاديق البيّنة الشرعيّة التي مرّ اعتبارها تعبّدا، و الشهادة فيها تكون عن حسّ كما في مورد الصحيحة.

و إنّما الإشكال و البحث في الشياع بين الناس إذا لم يعلم حالهم من الإيمان و العدالة بل نعلم إجمالا أن أكثرهم همج رعاع أتباع كلّ ناعق لا يستضيئون بنور العلم و لا يشخصون الحقّ من الباطل، و مورده الأمور الممتدّة في عمود الزمان التي يتعسّر فيها الحسّ غالبا. و دلالة الحديث على اعتباره محلّ إشكال.

و المحقّق النراقي

(ره) أيضا حمل الصحيحة على شهادة البيّنة قال في العوائد ما محصّله:

«إنّ الاستغراق فيه أفرادي لا جمعي فالمعنى كلّ مؤمن شهد عندك فصدّقه، خرج المؤمن الواحد بالدليل فيبقى الباقي.

مع أنّ إرادة العموم الجمعي منتفية قطعا لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين إلى يوم القيامة و لا جميع مؤمني عصره، بل و لا نصفهم و لا ثلثهم بل و لا عشرهم و لا واحد من ألف منهم فالمراد إما الاستغراق الأفرادي كما مرّ أو مطلق الجمع الشامل للثلاثة أو جميع أفراد الجموع الشامل للثلاثة المتعدي حكمه إلى الاثنين أيضا بالإجماع المركّب.

و أيضا الحكم مفرّع على قوله- سبحانه-: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.

و هو وارد في تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعبد اللّه بن نفيل و هو كان واحدا.

و أيضا ظاهر أنّ من أخبر إسماعيل بشرب الخمر ليس إلّا اثنين أو ثلاثة.» «2»

أقول: لم يظهر لي من أين ظهر له أنّ المخبر لإسماعيل لم يكن إلّا اثنين أو ثلاثة؟!. هذا.

و في الحديث مناقشة اخرى أيضا، و هي أنّ تزويج شخص و ائتمانه على أمانة يتوقّفان عادة على إحراز الإيمان و الأمانة فمجهول الحال أيضا لا يزوّج و لا يؤتمن عند العقلاء فلا يتوقّف عدم التزويج و عدم الايتمان على إحراز كونه فاسقا شارب الخمر فتأمّل.

______________________________

(1)- الجواهر، ج 40، ص 56.

(2)- العوائد، ص 274.

مجمع الفوائد، ص: 464

و مناقشة ثالثة، و هي أنّ الآية التي ذكرها الإمام عليه السّلام نزلت في شأن بعض المنافقين المتظاهرين بالإيمان و هو عبد اللّه بن نفيل أو نبتل بن الحارث أو عتّاب بن قشير:

ففي تفسير علي بن إبراهيم ما محصّله:

«أنّه كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن نفيل المنافق

كان يقعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسمع كلامه و ينقله إلى المنافقين و ينمّ عليه فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل بذلك فدعاه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره فحلف أنّه لم يفعل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد قبلت منك فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمدا أذن فأنزل اللّه- تعالى-: وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدّق اللّه فيما يقول و يصدّقك فيما تعتذر إليه في الظاهر و لا يصدّقك في الباطن، و قوله: و يؤمن للمؤمنين يعني المقرّين بالإيمان من غير اعتقاد.» «1»

أقول: و يشهد لما ذكره تغيير حرف الصلة و ذكر اللام الظاهرة في النفع أو يكون بتضمين التصديق فإنّه يتعدي باللام كما في قوله- تعالى-: وَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ

و إذا كان التصديق للمؤمنين بحسب الظاهر فقط فلا حجيّة في قوله و يكون وزانه وزان قوله عليه السّلام: «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسامة و قال لك قولا فصدّقه و كذّبهم.» «2»

و على هذا فيشكل الاستدلال بالصحيحة لحجيّة البيّنة أو الشياع. و لعلّ الآية الشريفة و الصحيحة كلتاهما في مقام الإرشاد إلى آداب المعاشرة و لزوم التصديق الصوري للمجتمع و الخلطاء و الاحتياط عملا في موارد الشبهة و نحو ذلك فتدبّر. هذا.

و هنا رواية اخرى عن الكافي يظهر منها أن القصّة وقعت لنفس الإمام الصادق مع أبيه عليهما السّلام و هي ما رواه في الوسائل عن الكافي عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد

بن سماعة عن غير واحد عن أبان بن عثمان عن حمّاد بن بشير عن ابي عبد اللّه و فيه: و قال

______________________________

(1)- تفسير علي بن إبراهيم، ج 1، ص 300 (- طبعة اخرى، ص 275)؛ و الآية 61 من سورة التوبة.

(2)- الكافي، ج 8، ص 147، تكذيب المغتاب ...، الحديث 125.

مجمع الفوائد، ص: 465

أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن فأتيت أبا جعفر عليه السّلام فقلت له: إني أريد أن أستبضع فلانا، فقال: أما علمت أنّه يشرب الخمر فقلت: بلغني من المؤمنين أنهم يقولون ذلك فقال:

صدّقهم فإنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ثمّ قال: إنّك إن استبضعته فهلكت أو ضاعت فليس لك على اللّه أن يأجرك و لا يخلف عليك، فاستبضعته فضيّعها فدعوت اللّه- عزّ و جلّ- أن يأجرني فقال: أي بني مه ليس لك على اللّه أن يأجرك و لا يخلف عليك، قال:

قلت: و لم؟ قال: لأنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً فهل تعرف سفيها أسفه من شارب الخمر. الحديث» «1» و روى القصة مختصرة العياشي أيضا عن حمّاد بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «2»

أقول: احتمال وقوع القصّة تارة للإمام الصادق عليه السّلام و تارة لابنه إسماعيل غير بعيد و لكن عصيان الإمام الصادق لأبيه بعيد جدا. هذا.

دليل آخر لحجيّة الشياع و نقده

و ربّما يتوهّم جواز الاستدلال لحجيّة الشياع أيضا بأخبار ذكر فيها لفظ المعروف.

كقوله عليه السّلام: «و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يتب منه أو معروف بشهادة زور. الحديث.» «3»

و قوله عليه السّلام: «نعم يشهدون على

شي ء مفهوم معروف.» «4»

و قوله عليه السّلام: في شهادة من يلعب بالحمام: «لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق.» «5»

و قوله عليه السّلام: «تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف.» «6» إلى غير ذلك ممّا حذا حذو هذه الأخبار.

______________________________

(1)- الوسائل، ج 17، ص 248، الباب 11 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.

(2)- تفسير البرهان، ج 2، ص 139.

(3)- الوسائل، ج 18، ص 155، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(4)- الوسائل، ج 18، ص 301، الباب 48 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(5)- الوسائل، ج 18، ص 305، الباب 54 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

(6)- الوسائل، ج 18، ص 294، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 20.

مجمع الفوائد، ص: 466

أقول: تفسير المعروف بالشائع عند الناس مصطلح بيننا أهل اللغة الفارسية و لكن الظاهر أنّ المراد به في هذه الأخبار المعروف للشخص لا المعروف عند المجتمع و لا أقل من احتمال ذلك.

هذه هي الوجوه التي أقاموها لاعتبار الشياع و الاستفاضة و قد عرفت المناقشة فيها.

حدود حجيّة الشياع

الأمر الثالث: في أنّ الاستفاضة هل تكون حجّة شرعية مطلقا او بشرط أن تكون مفيدة للعلم الجازم او يكتفي فيها بالظن المتاخم للعلم او يكفي مطلق الظنّ، او يشترط فيها أن لا يقوم ظنّ بخلافه؟ في المسألة وجوه.

ربّما يستظهر من المحقّق في شهادات الشرائع و النافع حيث اعتبر العلم في الشهادة، عدم اعتبار الاستفاضة ما لم تفد العلم.

و في المسالك في تعريف الاستفاضة:

«هي إخبار جماعة لا يجمعهم داعية التواطي عادة يحصل بقولهم العلم بمضمون خبرهم على ما يقتضيه كلام المصنّف هنا، أو الظن الغالب المقارب له على قول.» «1»

و ظاهره اعتبار حصول

العلم على نظر المصنّف هنا و الظنّ الغالب على القول الآخر.

و لكن لم يظهر لي من كلام المصنّف في باب القضاء اعتبار العلم. و قوله بعد أسطر:

«و لا يجب على أهل الولاية قبول دعواه مع عدم البيّنة و إن شهدت الأمارات ما لم يحصل اليقين.» «2»

مورده صورة عدم الاستفاضة كما يظهر لمن تأمّل في عبارته.

و كيف كان فالالتزام باشتراط العلم مساوق لعدم اعتبار الاستفاضة بذاتها إذا العلم حجّة بذاته في أيّ مقام حصل.

و ظاهر أكثر الكلمات أنّ الاستفاضة بنفسها حجّة شرعيّة و لذا اختلفوا في مواردها و تمسّكوا لحجيّتها فيها بأنّ هذه الأشياء ممّا يعتذر إقامة البيّنة عليها فهذا السنخ من الاستدلال

______________________________

(1)- المسالك، ج 2، ص 354.

(2)- المصدر.

مجمع الفوائد، ص: 467

ظاهر في كون المقصود حجيّتها بنفسها كالبيّنة.

و يظهر من الجواهر أيضا القول باعتبارها بذاتها بنحو الإطلاق و لكن لم يجوّز الشهادة بمضمونها إلّا إذا حصل العلم، ففصّل بين باب الشهادة و بين غيرها من الآثار.

ففي باب القضاء بعد الاستدلال للشياع بالسيرة و بالمرسلة و الصحيحة السابقتين. قال:

«و منه يعلم أنّه لا مدخلية لمفاده الذي يكون تارة علما و اخرى متآخما له و ثالثة ظنّا غالبا في حجيّته و إنما المدار على تحققه.» «1»

و في باب الشهادات منه:

«نعم قد يقال: إنّ الشياع المسمى بالتسامع مرّة و بالاستفاضة اخرى معنى وحداني و إن تعددت أفراده بالنسبة إلى حصول العلم بمقتضاه، و الظنّ المتاخم له و مطلق الظنّ إلّا أنّ الكلّ شياع و تسامع و استفاضة.

فمع فرض قيام الدليل على حجيّته من سيرة او إجماع او ظاهر المرسل او خبر إسماعيل او غير ذلك لم يختلف الحال في أفراده المزبورة التي من المقطوع عدم مدخليتها فيه،

بل هي في الحقيقة ليست من أفراده و إنّما هي أحوال تقارن بعض أفراده كما نجده بالوجدان بملاحظة أفراده.

و لكن على كلّ حال فإثبات حجيّته و القضاء به و إجراء الأحكام عليه لا يقتضي جواز الشهادة بمضمونه و إن لم يقارنه العلم، لما عرفته من اعتبار العلم في الشهادة و كونه كالشمس و الكفّ ....

و بذلك كلّه يظهر لك سقوط البحث في أنّه هل يعتبر فيه الظنّ المتاخم أو العلم و أنّ في ذلك قولين، بل في الرياض جعل الأقوال ثلاثة بزيادة مطلق الظنّ و نسبة كلّ قول إلى قائل و ذكر الأدلّة لذلك، إذ قد عرفت أنّ هذه الأحوال لا مدخليّة لها في حجيّة الشياع.

كما أنّه ظهر لك منه أنّ الشياع و التسامع و الاستفاضة على أحوال ثلاثة:

أحدها: استعمال الشائع المستفيض و إجراء الأحكام عليه. و الثاني:

______________________________

(1)- الجواهر، ج 40، ص 57.

مجمع الفوائد، ص: 468

القضاء به، و الثالث: الشهادة بمقتضاه.

أمّا الأوّل: فالسيرة و الطريقة المعلومة على أزيد ممّا ذكره الأصحاب فيه فإنّ الناس لا زالت تأخذ الفتوى بشياع الاجتهاد و تصلّي بشياع العدالة و تجتنب بشياع الفسق و غير ذلك مما هو في أيدي الناس.

و أما القضاء به، و إن لم يفد العلم فالأولى الاقتصار فيه على السبعة، بل الخمسة، بل الثلاثة بل النسب خاصّة، لأنّه هو المتفق عليه بين الأصحاب.

و أما الشهادة به، فلا تجوز بحال إلّا في صورة مقارنته للعلم بناء على الاكتفاء به في الشهادة مطلقا.» «1»

المختار في حجية الشياع

أقول: و ملخّص الكلام في المقام أنّه إن حصل بالشياع العلم الجازم فلا إشكال فيجوز العمل به، بل و الشهادة بمضمونه إلّا أن يناقش فيها باعتبار كونها عن حسّ، و كيف كان فالاعتبار

حينئذ للعلم لا للشياع.

و إن حصل الظنّ المتاخم الذي نعبّر عنه تارة بالوثوق و اخرى بسكون النفس، كان حجة أيضا لكونه بحكم العلم عند العقلاء يعتمدون عليه في أمورهم و إن أشكل الشهادة بمضمونه على ما أشار إليه في الجواهر من روايات الشمس و الكفّ «2».

و أما إذا لم يحصل العلم و لا الوثوق فالقول بحجيّته حينئذ يتوقّف على تماميّة بعض الوجوه التي مرّت، و عمدتها كما عرفت الصحيحة. و نحن و إن ناقشنا في دلالتها و قرّبنا حملها على البيّنة وفاقا لما في العوائد، و لكن المتبادر من قوله: «هكذا يقول الناس» و قوله: «قد بلغك» هو الشياع بين الناس، و قد مرّ أن إسماعيل لم يحصل له بذلك الشياع العلم و لا الوثوق و إلّا لما أعطى الرجل ماله الذي كان يهتم به، و مع ذلك وبّخه الإمام عليه السّلام على مخالفة ذلك الشياع.

و لعلّ الرواية الثانية الحاكية لقصّة الإمام عليه السّلام مع أبيه عليه السّلام دلالتها أظهر.

______________________________

(1)- الجواهر، ج 41، ص 134.

(2)- الوسائل، ج 18، ص 250، الباب 20 من أبواب الشهادات.

مجمع الفوائد، ص: 469

نعم يوهن ذلك ما في الصحيحة من قوله عليه السّلام: «إذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» الظاهر في شهادة البيّنة.

و كيف كان فلا يبعد القول بكفاية الشياع و الشهرة في البلد في مثل الأنساب و الأوقاف و نحوهما من الأمور الممتدّة في عمود الزمان إذا حصل الظنّ بالمضمون، و لو لا ذلك أشكل إثبات هذه الأمور مع الابتلاء بها و كثرة أحكامها، و انجرّ الأمر إلى تضييع كثير من الحقوق إذ تحصيل العلم الجازم او الوثوق او إقامة البيّنة في مثل الأنساب الممتدّة و الأوقاف القديمة مع كثرة

الوسائط و البعد الزماني ممّا يعسر جدّا و الملتزم بذلك يعدّ وسواسا خارجا من المتعارف. هذا، و لكن الأحوط السّعي في تحصيل العلم أو الوثوق ما لم يبلغ حدّ الوسوسة.

نقد ما أستدل به لحجيّة الشياع مطلقا

و ربّما يقال بجواز التمسك لحجيّة الشياع مطلقا بالأخبار المتمسّك بها لحجيّته في باب الهلال بإلغاء خصوصيّة المورد:

1- كخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و فيه: «لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلّا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه.» «1»

2- و في خبر عبد الرحمن قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع و عشرين من شعبان فقال: «لا تصم إلّا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه.» «2»

3- و بالإسناد عنه أنّه سأله عن ذلك فقال: «لا تصم ذلك اليوم إلّا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا ذلك فصمه.» «3»

4- و خبر عبد الحميد الأزدي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أكون في الجبل في القرية فيها خمس مأئة من الناس. فقال: «إذا كان كذلك فصم لصيامهم و أفطر لفطرهم.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل، ج 7، ص 211، الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(2)- الوسائل، ج 7، ص 212، الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 2.

(3)- الوسائل، ج 7، ص 212، الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 3.

(4)- الوسائل، ج 7، ص 212، الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 4.

مجمع الفوائد، ص: 470

5- و موثقة سماعة أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه؟ قال:

«إذا اجتمع أهل مصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل مصر خمس مأئة

إنسان.» «1»

أقول: قد حمل في الجواهر هذه الأخبار على صورة حصول العلم و حيث إنّ الغالب في مواردها حصول العلم يشكل الأخذ بإطلاقها فضلا عن التعدي منها إلى سائر الأبواب. «2»

______________________________

(1)- الوسائل، ج 7، ص 213، الباب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 7.

(2)- كتاب الزكاة، ج 3، ص 385 إلى 413.

مجمع الفوائد، ص: 471

الفصل السابع: موجبات الكفر و الارتداد

اشارة

و هو يشتمل على فوائد:

مجمع الفوائد، ص: 473

الفائدة الاولى: ما هو الملاك في الارتداد؟

«المبحث: الاستدلال على كفر منكر الزكاة، و أنّ إنكار الضروري مع العلم به هل هو موجب للكفر مطلقا او إذا يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة؟

و البحث عن هذه المسألة و التي تليها في خلال مسائل الأصول استطرادي.» «1»

أقول: ذكروا في كتاب الطهارة ان الكافر من ينكر الألوهية او التوحيد او الرسالة او ضروريّا من ضروريات الدين فنقول:

هل لإنكار الضروري موضوعية فهو موجب للكفر مطلقا او لرجوعه إلى إنكار الرسالة و لو ببعضها و كون شي ء ضروريا أمارة على التفات الشخص إلى كونه جزء من الدين فلو ثبت كون إنكاره لشبهة فلا يوجب الكفر او لا أثر للضرورية أصلا و لو بعنوان الأمارة فلو احتمل في حقه الشبهة أيضا لا يحكم بكفره؟

ظاهر بعض العبارات الأوّل، ففي كتاب الطهارة من الشرائع:

«الكافر و ضابطه كل من خرج عن الإسلام أو من انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج و الغلاة». «2»

و في الإرشاد:

«و الكافر و إن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة كالخوارج و الغلاة» «3»

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 11.

(2)- شرائع الإسلام، ج 1، ص 42.

(3)- إرشاد الأذهان، ج 1، ص 239.

مجمع الفوائد، ص: 474

و نحوهما غيرهما.

و لكن في مفتاح الكرامة:

«و هنا كلام في أن جحود الضروري كفر في نفسه أو يكشف عن إنكار النبوة مثلا؟ ظاهرهم الأوّل و احتمل الأستاذ الثاني قال: فعليه لو احتمل وقوع الشبهة عليه لم يحكم بتكفيره إلّا ان الخروج عن مذاق الأصحاب مما لا ينبغي».

و فيه أيضا:

«و في مجمع البرهان: المراد بالضروري الذي يكفر منكره الذي ثبت عنده يقينا كونه من الدين و لو

بالبرهان و لو لم يكن مجمعا عليه إذ الظاهر أن دليل كفره هو إنكار الشريعة و إنكار صدق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثلا في ذلك الأمر مع ثبوته يقينا عنده و ليس كل من أنكر مجمعا عليه يكفر، بل المدار على حصول العلم و الإنكار و عدمه إلّا انه لما كان حصوله في الضروري غالبا جعل ذلك مدارا و حكموا به فالمجمع عليه ما لم يكن ضروريا لم يؤثر». «1»

و ظاهر ما حكاه في عبارته الأولى عن استاذه كاشف الغطاء من النسبة إلى مذاق الأصحاب توهم كون المسألة إجماعية و لكن ليعلم أن المسألة ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن المعصومين عليهم السّلام و لم تذكر في الكتب المعدّة لنقلها كالمقنعة و النهاية و لم أجدها بهذه العبارة في الكتب قبل الشرائع.

نعم في الغنية كلام يقرب منها قال:

«فصل في الردّة: متى أظهر المرء الكفر باللّه أو برسوله أو الجحد بما يعم فرضه و العلم به من دينه كوجوب الصلاة او الزكاة او ما يجري مجرى ذلك بعد إظهار التصديق به كان مرتدّا». «2»

فقوله: «الجحد بما يعم فرضه و العلم به» يقرب من إنكار الضروري.

و بالجملة فليس كون إنكار الضروري موجبا للكفر بنفسه مذكورا في كتب القدماء من

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة، ج 2، ص 38.

(2)- الغنية، ص 380.

مجمع الفوائد، ص: 475

أصحابنا فلا وجه لادعاء الشهرة في المسألة فضلا عن الإجماع، و إجماع المتاخرين على فرض ثبوته لا يفيد.

و ليس الإجماع بما هو إجماع حجة عندنا و ان جعله المخالفون حجة و استدلوا عليها بأمور: منها ما رووه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «لا تجتمع أمتي

على خطأ» و الحديث لم يثبت عندنا و إنما نؤمن بحجيّة الإجماع إذا كان كاشفا عن قول المعصومين عليهم السّلام فمحله المسائل الأصلية المتلقاة يدا بيد لا المسائل التفريعية الاستنب اطية.

و على هذا فليس لإنكار الضروري موضوعية و ليس بنفسه موجبا للكفر بل إن رجع إنكاره الى إنكار الرسالة بأن كان ملتفتا إلى كونه من الدين و مع ذلك أنكره.

فان قلت: فعلى هذا لا يبقى فرق بين الضروري و غيره أصلا.

قلت: نعم و لذا مرّ عن مجمع البرهان كفر من أنكر ما ثبت عنده كونه من الدين بالبرهان و لو لم يكن مجمعا عليه فضلا عن كونه ضروريا.

نعم لعل بينهما فرقا في مقام الإثبات فلو كان أحد في مناطق الإسلام و بلاده و نشأ بين المسلمين بحيث يبعد جدّا عدم علمه بواضحات الإسلام و ضرورياته فتصير ضرورية المسألة أمارة عقلائية على علمه بكونها من الإسلام و يرجع إنكارها إلى إنكار أصل الرسالة و لو بجزئها و إلّا فلو ثبت كون إنكار الشخص لشبهة او كان الشخص جديد الإسلام او بعيدا عن مناطق الإسلام فلا أمارة و لا طريق إلى إحراز كون إنكاره راجعا إلى إنكار الرسالة و الإسلام و لأجل ذلك قال في المتن: «و منكره مع العلم به كافر».

الفائدة الثانية: [إنكار الضروري]

الاستدلال لكون إنكار الضروري موجبا للكفر مطلقا و نقده

هذا، و القائلون بكون إنكار الضروري مطلقا موجبا للكفر يتمسكون بوجوه:

الأوّل: أن الإسلام عبارة عن مجموع العقائد و الأحكام المخصوصة المقررة من جانب اللّه و يجب على المسلمين الالتزام بها فمن أنكر واحدا منها فقد أنكر الإسلام ببعضه.

إن قلت: لنا أخبار كثيرة تدل على أن الإسلام الذي به تحقن الدماء و تحل المناكح و يثبت

مجمع الفوائد، ص: 476

التوارث شهادة أن لا إله إلّا اللّه

و أن محمدا رسول اللّه.

قلت: أولا ان ذلك لجديد الإسلام، و ثانيا أن الشهادة بالرسالة في الحقيقة إقرار بجميع ما جاء به الرسول فإنكار بعضها يرجع إلى إنكار الرسالة.

الثاني: إجماعهم على موضوعية إنكار الضروري، لعطفه في كلماتهم على من خرج عن الإسلام، و ظاهر العطف المغايرة و لعدم تقييده بالعلم، و لتقييدهم إياه بالضروري، إذ لو كان الملاك الرجوع إلى إنكار الرسالة لجرى في كل ما علم أنه من الدين و ان لم يكن ضروريا، و لتمثيلهم له بالخوارج و الغلاة و النواصب مع ان كثيرا منهم لا يعلمون بمخالفتهم في ذلك للدين بل ربما يتقربون بذلك إلى اللّه سبحانه.

الثالث: أخبار مستفيضة متفرقة في الأبواب المختلفة، و سيأتي ذكرها.

أقول: يرد على الأوّل أن مقتضاه كفر من أنكر واحدا من أحكام الإسلام سواء كان ضروريا او غيره و سواء كان عالما بكونه من الإسلام او جاهلا مقصرا او قاصرا حتى انه يجوز تكفير كل مجتهد لغيره إذا أفتى بخلاف ما افتى به هذا المجتهد لأنّه بفتواه بخلاف هذا المجتهد أنكر ما أفتى به هذا، و لا يمكن أن يلتزم بهذا أحد.

و يرد على الثاني منع الإجماع في المسألة لما عرفت من أن عنوان مسألة الضروري و إيجاب إنكاره للكفر كان من المحقق و من بعده فيما أعلم و لم يكن في كلمات القدماء ذكر منه و التمثيل بالغلاة و الخوارج أيضا في كلمات المتاخرين.

نعم مرّ من ابن زهرة في الغنية: «الجحد بما يعم فرضه و العلم به من دينه.»، و لكن لا يخفى ان كلمة «الجحد» لا تطلق إلّا في الإنكار مع العلم، ففي الصحاح: «الجحود الإنكار مع العلم»، و في المفردات «الجحود نفي ما في

القلب إثباته و إثبات ما في القلب نفيه ... قال- عزّ و جلّ-:

وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ» «1». و ذكر المتاخرين للضروري لعلّه كان من جهة أن ضرورية المسألة و كونها بديهية سبب للعلم بها فأرادوا بذلك كون الإنكار عن علم او لكونها أمارة على كون المنكر عالما بكونها من الدين إذا كان الشخص ممن نشأ في محيط المسلمين فلو أنكر أحد مثلا كون الزوايا الثلاث في المثلث مساوية لقائمتين امكن كون إنكاره

______________________________

(1)- سورة النمل (27)، الآية 14.

مجمع الفوائد، ص: 477

عن جهل بالمسألة و أما إذا أنكر أحد كون مضروب الاثنين في نفسه أربعة فلا يحمل إنكاره طبعا على كونه عن جهل بعد كون المسألة بديهية يعرفها كل أحد و هذا لا ينافي كونه عن جهل إذا صدر ممن يحتمل في حقه ذلك.

و كيف كان فليس لإنكار الضروري موضوعية في إيجاب الكفر بل إنكار كل حكم إذا رجع الى إنكار الرسالة صار سببا للكفر و إلّا فلا.

و لا يخفى أن إنكار الألوهية و التوحيد و الرسالة موجب للكفر و لو كان عن جهل و قصور فان العذر و القصور و عدم العذاب أمر، و الإسلام و الاعتقاد به أمر آخر، فالمنكر لهذه الأصول أو لواحد منها ليس مسلما و إن كان قاصرا معذورا و لا محالة لا عقاب عليه عقلا فتدبر. «1»

الاستدلال للمسألة بالأخبار و نقده

بقي الكلام في الأخبار التي ربما يتوهم دلالتها على المسألة فلنتعرض لها إجمالا:

فالأول: ما رواه في أصول الكافي صحيحا إلى عبد الرحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الإيمان ما هو؟ فكتب إليّ مع عبد الملك بن أعين: «سألت- رحمك

اللّه- عن الإيمان، و الإيمان هو الإقرار باللسان و عقد في القلب و عمل

______________________________

(1)- و مال الاستاذ- دام ظلّه- اخيرا الى أن انكار اصل او فرع ضرورى من الدين اذا كان عن جهل و قصور بأن لم يكن ذلك الأصل او الفرع ضروريا عند المنكر لا يوجب الكفر و الارتداد. و قال في توضيحه: الكفر هو ستر أمر واضح و بيّن، فلذا يقال للزارع الكافر لستره البذر تحت التراب. فمن تيقّن بحقيّة الدين و أصوله و فروعه و أنكره جحدا كان كافرا لكونه ساترا لأمر بيّن عنده، فهو مصداق لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطٰانُ سَوَّلَ لَهُمْ. (محمّد/ 25)

و اما من لم يتيقّن بعد بحقيّة الدين اصولا و فروعا و كان في حال التحقيق و التفكر فلا يكون كافرا لعدم كونه ساترا لشي ء بيّن، نعم مثل هذا لا يكون مؤمنا أيضا.

و قال أيضا الكفر و الايمان ليسا أمرين قلبيّين فإن الأمور القلبيّة كاليقين و نحوه ليست اختيارية فلا يصح العقاب و الثواب عليهما مع أن الإيمان و الكفر (بحسب الآيات و الروايات) موجبان للثواب و العقاب، بل الكفر و الايمان من مقولة الالتزام و التعهد العمليّين، فالايمان هو الالتزام العملى بلوازم العقائد الدينية و الكفر هو الإنكار و عدم الالتزام العملى بها. (الاستفتاءات، المجلد الثاني، المسألة 2506) (اللجنة)

مجمع الفوائد، ص: 478

بالأركان، و الإيمان بعضه من بعض و هو دار و كذلك الإسلام دار و الكفر دار فقد يكون العبد مسلما قبل أن يكون مؤمنا و لا يكون مؤمنا حتى يكون مؤمنا حتى يكون مسلما، فالإسلام قبل الإيمان و هو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد كبيرة

من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللّه- عزّ و جلّ- عنها كان خارجا من الإيمان ساقطا عنه اسم الإيمان و ثابتا عليه اسم الإسلام فإن تاب و استغفر عاد إلى دار الإيمان، و لا يخرجه إلى الكفر إلّا الجحود. و الاستحلال أن يقول للحلال:

هذا حرام و للحرام: هذا حلال و دان بذلك فعندها يكون خارجا من الإسلام و الايمان، داخلا في الكفر و كان بمنزلة من دخل الحرم ثم دخل الكعبة و أحدث في الكعبة حدثا فاخرج عن الكعبة و عن الحرم فضربت عنقه و صار إلى النار.» «1»

و عبد الرحيم القصير و إن لم يوثق في الرجال و لكن نقل الكليني و الصدوق لرواياته يوجب نحو اعتبار له و لعله يستفاد من ترحم الصادق عليه السّلام عليه، كونه إماميا حسن الحال، و نقل الصدوق للحديث يتفاوت مع نقل الكليني و لعل نقل الكليني أصحّ.

المحتملات الأربعة للحديث الأوّل

و كيف كان فنقول ليس في الحديث اسم من الضروري، و لفظ الجحود كما مرّ يطلق على الإنكار مع العلم لا مطلق الإنكار، و لو سلم أنه أعمّ فالمحتملات في الحديث أربعة:

الأوّل: أن الألفاظ وضعت للمعاني الواقعية فيكون المراد أن من قال للحلال الواقعي: أنه حرام، و للحرام الواقعي: هذا حلال، و مقتضاه كون إنكار الحكم الواقعي موجبا للكفر مطلقا سواء كان ضروريا او غيره و عن علم او جهل تقصيرا او قصورا.

الثاني: أن يراد بالحلال و الحرام ما ثبت عند جميع فرق المسلمين و مذاهبهم حليته أو حرمته.

الثالث: أن يراد بهما ما كان ضروريا و بديهيا منهما.

الرابع: أن يراد بهما ما كان كذلك في علم الشخص المنكر.

و أظهر الاحتمالات الاحتمال الأوّل و لكن لا يمكن

أن يلتزم به أحد كما مرّ فيتردد الأمر بين

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 27، كتاب الإيمان و الكفر، باب أن الإسلام قبل الإيمان، ص 27.

مجمع الفوائد، ص: 479

الثلاثة الأخر و أظهرها الأخير فيختص الكفر بالمنكر مع العلم و لا أقل من بقاء الترديد و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال فلا دلالة في الحديث على كون عنوان الضروري موجبا للكفر فتدبر.

هذا، و تشبيهه عليه السّلام الإسلام و الإيمان بالحرم و الكعبة أولا من جهة كون النسبة بينهما بالعموم و الخصوص و ثانيا من جهة ان الكعبة مما يعرفها كل أحد، بخلاف الحرم و المسجد فالإهانة لها لا محالة تقع عن علم و عمد و لكن لو فرض لأحد شبهة في ذلك فأحدث فيها عن شبهة فهل يضرب عنقه؟ لا يمكن الالتزام بذلك و يشهد لهذا موثقة سماعة حيث ورد فيها: «لو أن رجلا دخل الكعبة فافلت منه بوله أخرج من الكعبة و لم يخرج من الحرم فغسّل ثوبه و تطهر، ثم لم يمنع أن يدخل الكعبة، و لو أن رجلا دخل الكعبة فبال فيها معاندا أخرج من الكعبة و من الحرم و ضربت عنقه» «1». فحكم القتل مرتب على البول عنادا لا مطلقا.

الفائدة الثالثة: للكفر مراتب و معاني

اشارة

الحديث الثاني: خبر أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام من شهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مؤمنا؟

قال: فأين فرائض اللّه، قال: و سمعته يقول: كان علي عليه السّلام يقول: لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم و لا صلاة و لا حلال و لا حرام. قال: و قلت لأبي

جعفر عليه السّلام: ان عندنا قوما يقولون: إذا شهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو مؤمن؟ قال: فلم يضربون الحدود؟ و لم تقطع أيديهم؟! و ما خلق اللّه- عزّ و جلّ- خلقا أكرم على اللّه- عزّ و جلّ- من المؤمن، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين و أن جوار اللّه للمؤمنين و أن الجنة للمؤمنين و أن الحور العين للمؤمنين، ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافرا؟» «2».

أقول: أولا أن الجحد كما عرفت هو الإنكار عن علم لا مطلقا و ثانيا ليس في الحديث اسم من الضروري و المحتملات فيه أربعة كما عرفت في الحديث الأوّل و الكلام الكلام و ثالثا

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 28، كتاب الإيمان و الكفر، باب أن الإسلام قبل الإيمان.

(2)- اصول الكافي، ج 2، ص 33، كتاب الإيمان و الكفر.

مجمع الفوائد، ص: 480

الكفر لغة الستر، يقال: «كفره» أي ستره و غطّاه و يقال للّيل «كافر» لستره الأشخاص و الأشياء و للزارع «كافر» لستره البذور في الأرض، قال اللّه- تعالى-: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ «1»، أي الزّراع كما عن بعض المفسرين؛ و للكفر في الإنسان مراتب بلحاظ مراتب ستر الإيمان و الفطرة فمرتبته الكاملة مقابل للإسلام و لكن قد يطلق في مقابل الإيمان أيضا كما في هذا الحديث بل قد يطلق على كل مرتكب للمعصية انه كافر، و في الحديث: «لا يزني الزاني و هو مؤمن» «2».

و الكفر المبحوث عنه في كتاب الطهارة و المترتب عليه الأحكام الخاصة هو الكفر المقابل للإسلام و ليس في الحديث اسم منه.

الحديث الثالث: ما في الكافي أيضا عن سليم

بن قيس الهلالي قال: سمعت عليا عليه السّلام يقول و أتاه رجل فقال له: ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا و أدنى ما يكون به العبد كافرا و أدنى ما يكون به العبد ضالا؟ فقال له:

«قد سألت فافهم الجواب أما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه اللّه- تعالى- نفسه ... و أدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أن شيئا نهى اللّه عنه أن اللّه أمر به و نصبه دينا يتولى عليه و يزعم أنه يعبد الذي أمره به و إنما يعبد الشيطان» الحديث «3».

و الجواب عنه أولا جريان الاحتمالات الأربعة المذكورة في الحديث الأوّل فيه أيضا فلا يتعين حمله على إنكار الضروري فقط و ثانيا ان الكفر فيه مقابل الإيمان لا الإسلام و لا أثر فقهي له.

الحديث الرابع: ما رواه الحسن بن محبوب، عن داود بن كثير الرقي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: سنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كفرائض اللّه- عزّ و جلّ-؟ فقال: «ان اللّه- عزّ و جلّ- فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها و جحدها كان كافرا» الحديث «4». و داود بن كثير و إن اختلفوا في وثاقته و لكن الحسن بن محبوب من أصحاب الاجماع.

______________________________

(1)- سورة الحديد، (57) الآية 20.

(2)- اصول الكافي، ج 2، ص 285، كتاب الإيمان و الكفر باب الكبائر.

(3)- اصول الكافي، ج 2، ص 414، كتاب الإيمان و الكفر، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا.

(4)- اصول الكافي، ج 2، ص 383، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكفر.

مجمع الفوائد، ص: 481

و الجواب عن الحديث أيضا أولا ما مرّ من

كون الجحد هو الإنكار مع العلم و ثانيا جريان الاحتمالات الأربعة فيه.

الحديث الخامس: خبر موسى بن بكر قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الكفر و الشرك أيّهما أقدم؟

قال: فقال لي: «ما عهدي بك تخاصم الناس، قلت: أمرني هشام بن سالم أن أسألك عن ذلك، فقال لي: الكفر أقدم و هو الجحود» الحديث. «1»

و موسى بن بكر واقفي و الأمر في سهل سهل كما ذكر في محله.

و الجواب ما مرّ من أن الجحود الإنكار مع العلم لا مطلقا و ليس في الحديث اسم من الضروري.

الحديث السادس: صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «كل شي ء يجرّه الإقرار و التسليم فهو الإيمان و كل شي ء يجرّه الإنكار و الجحود فهو الكفر» «2».

و الجواب أولا أن الكفر فيه مقابل الإيمان لا الإسلام و ثانيا ما مرّ في معنى الجحود.

الحديث السابع: خبر أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود و الجحود على وجهين» الحديث «3».

و الحديث مفصل و حاصله أن الكفر في القرآن خمسة أوجه: الأوّل الجحود بالربوبية، الثاني الجحود على معرفة و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق، الثالث كفر النعم، الرابع ترك ما أمر اللّه به، الخامس كفر البراءة.

و الجواب أن كفر منكر الربوبية واضح و الجحود أيضا مرّ معناه و الأقسام الثلاثة الأخر لا أثر فقهي لها.

الحديث الثامن: صحيحة بريد العجلي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن أدنى ما يكون العبد به مشركا قال: فقال: «من قال للنواة: إنها حصاة

و للحصاة: إنها نواة ثم دان به» «4».

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 385، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكفر.

(2)- اصول الكافي، ج 2، ص 387، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكفر.

(3)- اصول الكافي، ج 2، ص 389، كتاب الإيمان و الكفر، باب وجوه الكفر.

(4)- اصول الكافي، ج 2، ص 397، كتاب الإيمان و الكفر، باب الشرك.

مجمع الفوائد، ص: 482

و الجواب أولا أن المسؤول عنه حيثية الشرك لا الكفر و ثانيا أن لازم الحديث باطلاقه كفاية إنكار كل حكم للحكم بالشرك ضروريا كان أم لا عن علم او عن جهل تقصيرا او قصورا و لا يقول به أحد فيجب أن يحمل على الإنكار عن علم أو على كون الشرك ذا مراتب و ليست كل مرتبة منه موجبة للكفر بالاصطلاح الفقهي فتدبر.

هل مرتكب الكبيرة كافر؟

الحديث التاسع: موثقة مسعدة بن صدقة قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«الكبائر: القنوط من رحمة اللّه و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه و قتل النفس التي حرّم اللّه و عقوق الوالدين و أكل مال اليتيم ظلما و أكل الربا بعد البينة و التعرّب بعد الهجرة و قذف المحصنة و الفرار من الزحف، فقيل له: أ رأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها، أ تخرجه من الايمان، و ان عذب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين أوله انقطاع؟

قال: يخرج من الإسلام إذا زعم انها حلال و لذلك يعذّب أشدّ العذاب و إن كان معترفا بأنها كبيرة و هي عليه حرام و أنه يعذب عليها و أنها غير حلال، فانه معذّب عليها و هو أهون عذابا من الأوّل و يخرجه من الإيمان و لا يخرجه من الإسلام» «1».

و الرواية صريحة في أن

مرتكب الكبيرة مع الاعتراف بها لا يكون كافرا فيجب أن يحمل ما دلّ على كفر العاصي او مرتكب الكبيرة على إرادة بعض مراتب الكفر غير المضرة بإسلام الشخص، و حيث إن مورد هذا الفرض أعني فرض الاعتراف هو صورة علم الشخص بكونها كبيرة يكون مورد الفرض الأوّل أعني صورة زعم الحلية و إنكار الحرمة أيضا صورة العلم فيرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة قهرا.

و قد يتوهم أن إسناد الفعل إلى الفاعل المختار ظاهر في التفات الفاعل إلى العنوان الذي ينطبق على هذا الفعل و يكون موضوعا للحكم في لسان الدليل فاذا قلنا: «فلان ارتكب كبيرة» يكون ظاهرا في ارتكابه لها ملتفتا إلى كونها كبيرة و إذا قلنا: «فلان شرب خمرا» يكون ظاهرا في شربه له ملتفتا إلى كونه خمرا.

و فيه أن الإسناد و إن دلّ على وقوع الفعل عن الفاعل عن علم و اختيار في مقابل الفاعل

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 280، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكبائر.

مجمع الفوائد، ص: 483

في النوم أو عن إكراه، و لكن لا ظهور له في التفات الفاعل إلى العنوان الذاتي لموضوع فعله فاذا قلنا: «شرب زيد خمرا» يكون الإسناد ظاهرا في الشرب مع العلم و الاختيار و أما التفاته إلى كون المشروب خمرا فدلالة الإسناد عليه ممنوعة و كون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا يلازم التفات الفاعل إليه و إلّا فلو كان المشروب خمرا واقعا و لكن الفاعل زعم كونه ماء و شربه يلزم مجازية قولنا حينئذ: «شرب زيد خمرا» و بالجملة فالخمر موضوع للخمر الواقعي لا لمعلوم الخمرية و الإسناد أيضا لا يستفاد منه إلّا وقوع الفعل عن علم و اختيار و أما التفاته إلى عنوان

الخمرية فلا يستفاد هذا.

و لكن في المقام يجب أن يحمل المرتكب للكبيرة في الحديث على مرتكبها مع الالتفات إلى كونها كبيرة إذا المحتملات كما عرفت في شرح الحديث الأوّل أربعة: المرتكب للكبيرة مطلقا ضرورية أم لا عن علم او عن جهل عن تقصير او عن قصور، و المرتكب لما هو الكبيرة عند جميع المذاهب و الفرق، و المرتكب لما هو كبيرة و حرام بالضرورة، و المرتكب لما هو كبيرة عند الفاعل و في علمه، و أظهر الاحتمالات و ان كان هو الأوّل و لكنه لا يمكن الالتزام به و لا يلتزم به أحد فيدور الأمر بين الثلاثة الأخر و أظهرها الأخير و يؤيده ما مرّ من كون مورد الاعتراف أيضا صورة العلم و لو سلّم بقاء الترديد بطل الاستدلال فحملها على ما هو حرام و كبيرة بالضرورة لا دليل عليه.

الحديث العاشر: صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام و إن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين أم له مدّة و انقطاع؟

فقال عليه السّلام: «من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام و عذّب أشدّ العذاب و إن كان معترفا أنه أذنب و مات عليه أخرجه من الإيمان و لم يخرجه من الإسلام و كان عذابه أهون من عذاب الأوّل» «1». و الكلام فيه الكلام في سابقه.

ما هو الفرق بين مرتكب الكبيرة أو الصغيرة في الأخبار؟

فان قلت: إذا كان الملاك كون الإنكار عن علم حتى يرجع إلى إنكار الرسالة فلا يكون

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 285، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكبائر.

مجمع الفوائد، ص: 484

فرق بين الكبيرة و غيرها فلم خصّت

بالذكر؟

قلت: الكبيرة ذكرت في كلام السّائل و لعله كان مرتكزا في ذهنه ما يعتقده بعض، من كون فعل الكبائر مخرجا عن الإسلام، و الإمام عليه السّلام ردّ هذا الاعتقاد. و ما احتاطه بعض محشّي العروة من كون إنكار الكبيرة موجبا للكفر فمأخذه هذان الحديثان و ليس الملاك حينئذ عنوان الضروري بل عنوان الكبيرة و بينهما عموم من وجه و قد عرفت جريان الاحتمالات الاربعة في الحديثين فيمكن حملهما على صورة الإنكار عن علم كما كان الاعتراف أيضا في مورد العلم.

و قد تلخص مما ذكرنا في جواب الروايات التي ربما يتوهم دلالتها على كون إنكار الضروري بنفسه موجبا للكفر أولا أن الكفر في كثير منها ذكر في مقابل الإيمان لا الإسلام و ثانيا اشتمال اكثرها على لفظ الجحود و هو يختص بصورة الإنكار عن علم و ثالثا أن المحتملات فيها أربعة و أظهرها بحسب الإطلاق الأوّل، و لكن حيث لا يلتزم به أحد يكون أظهر الثلاثة الباقية، الأخير أعني صورة كون الإنكار عن علم و لو منعت الأظهرية بطل الاستدلال مع الاحتمال فلا دليل على خصوص عنوان الضروري.

الاستدلال للمسألة بأخبار أخر و نقده

و هنا ثلاث روايات أخر تشتمل على مضمون آخر ربما يتفاوت مع ما سبق:

الأولى: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا» «1».

و لا يخفى ان المراد بالعباد في الحديث ليس مطلق العباد بل الذين لهم سابقة الإسلام و لكن قد يعرض لهم شبهات في بعض المسائل و هذا كثير و لا سيما للشبّان في أعصارنا و ليس المراد بالجهل الجهل المطلق و إلّا لم يناسب الجحد فانه الإنكار عن علم كما عرفت، فالمراد أن المسائل

التي يعلم الإنسان إجمالا بكونها من الدين و لكن يعرض له بسبب إلقاء الشيطان شبهة آنية فيها لو لم ينكرها الإنسان جزما بل توقف فيها مقدمة للسؤال و التفحّص لم يخرج بذلك من الدين، و الإنسان لا يخلو غالبا من شك و من يهتم بذلك و يتعقبه بالسؤال و

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 388، كتاب الإيمان و الكفر، باب الكفر.

مجمع الفوائد، ص: 485

الاستفهام كان ذلك من كمال ايمانه كما في بعض الأحاديث.

الثانية: رواية محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: «كافر يا أبا محمد، قال: فشك في رسول اللّه؟ فقال: كافر، قال: ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد» «1».

و يظهر من سابقها موردها و المراد منها.

الثالثة: خبر أبي اسحاق الخراساني قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول في خطبته:

«لا ترتابوا فتشكّوا و لا تشكّوا فتكفروا.» «2»

و الظاهر ان الشك أمر غير اختياري غالبا و لكن الارتياب يطلق فيما إذا أوجد الإنسان باختياره مقدمات شكّه و ترديده، و لعل المراد أن الارتياب يتعقبه الشك و الشك قد يتعقبه الكفر لا أن الشك بنفسه كفر.

و كيف كان فسنخ الروايات الثلاث يخالف سنخ ما سبق.

ما هو المختار في المسألة؟

و قد ظهر إلى هنا عدم الدليل على موضوعية إنكار الضروري و كونه بنفسه موجبا للكفر، و لذا قال في طهارة العروة:

«مع الالتفات إلى كونه ضروريا بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة، و الأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقا» «3»

و علقت عليه سابقا حينما كنت في السجن «لا دليل على

عنوان الضروري، نعم الأحوط الاجتناب عن منكر المعاد و كذا عمن ارتكب كبيرة من الكبائر و زعم أنها حلال و دان بذلك إذا لم يكن عن قصور»

و الآن أقول لا يلزم رعاية الاحتياط في غير منكر المعاد إلا إذا رجع إلى إنكار الرسالة.

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 2، ص 399، كتاب الإيمان و الكفر، باب الشك.

(2)- اصول الكافي، ج 2، ص 399، كتاب الإيمان و الكفر، باب الشك.

(3)- العروة الوثقى، ج 1، ص 67.

مجمع الفوائد، ص: 486

و لنذكر هنا بعض الفتاوى التي ربما يستفاد منها إيجاب إنكار الضروري للكفر و القتل:

ففي باب الذبائح من المقنعة:

«و يجتنب الأكل و الشرب في آنية مستحلّي شرب الخمر و كل شراب مسكر.» «1»

و في الخلاف (- كتاب المرتد المسألة 9):

«من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة كان كافرا يجب قتله بلا خلاف». «2»

و في النهاية:

«من شرب الخمر مستحلا لها حلّ دمه ... و من استحل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ممّن هو مولود على فطرة الإسلام فقد ارتد بذلك عن دين الإسلام و وجب عليه القتل بالإجماع». «3»

و في صوم المعتبر:

«من أفطر مستحلا فهو مرتدّ إن كان ممن عرف قواعد الإسلام». «4»

فالعبارات السابقة مطلقة و لكن المحقق قيّد الحكم بمن عرف قواعد الإسلام مع أنّه في شرائعه أطلق كون إنكار الضروري موجبا للكفر مطلقا و الظاهر أن مراد المطلقين أيضا صورة العلم و المعرفة نعم لا نأبي كما عرفت أن تكون ضروريّة الحكم أمارة على العلم ما لم ينكشف الخلاف، هذا ما عندنا هنا و محل تفصيل المسألة كتاب الطهارة فراجع. «5»

الفائدة الرابعة: [في تكليف الكفّار]

هل الكفار مكلفون بالفروع؟

«الكافر هل تجب عليه الزكاة؟ و قد تعرض سماحة الأستاذ- دام ظلّه- بمناسبة هذه المسألة

لمسائل خمس و أشار في خلالها إلى مباحث أصوليّة و كلاميّة.» «6»

______________________________

(1)- المقنعة، ص 581.

(2)- الخلاف، ج 5، ص 359.

(3)- النهاية، ص 713.

(4)- المعتبر، ج 2، ص 681.

(5)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 11 إلى 21.

(6)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 125.

مجمع الفوائد، ص: 487

هنا مسائل خمس:

الأولى: هل الكفار مكلفون بالفروع أم لا؟

الثانية: هل تصحّ منهم من حال الكفر؟

الثالثة: هل للإمام او نائبه أخذ الزكاة منه قهرا؟

الرابعة: هل يضمنها إذا أتلفها؟

الخامسة: هل تسقط منه بالإسلام؟ و قد تعرّض المصنّف لأربع منها في هذه المسألة و للخامسة في المسألة التالية.

اما المسألة الأولى فنقول: المشهور بيننا أن الكفار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلّفون بالأصول.

بل ادعي عليه الإجماع في الكتب الأصولية و الفقهية، و اما أهل الخلاف ففيهم الخلاف في المسألة.

قال في التذكرة:

«أما الكافر فان الزكاة و ان وجبت عليه عندنا لأنّه مخاطب بالفروع و به قال الشافعي خلافا لأحمد و أبي حنيفة إلّا انه لا يصح منه أدائها حال كفره فاذا أسلم سقطت عنه و ان كان النصاب موجودا لأنها عبادة فسقطت بإسلامه لقوله عليه السّلام:

«الإسلام يجبّ ما قبله و يستأنف الحول حين الإسلام». «1»

و في المعتبر:

«تجب الزكاة على الكافر و ان لم يصح منه أدائها، أما الوجوب فلعموم الأمر و اما عدم صحة الأداء فلأنّ ذلك مشروط بنية القربة و لا تصح منه و لا قضاء عليه لو أسلم لقوله عليه السّلام: «الإسلام يجبّ ما قبله و يستأنف لماله الحول عند إسلامه». «2»

و في الشرائع:

«و الكافر تجب عليه الزكاة لكن لا يصح منه أداؤها». «3»

و في الخلاف (المسألة 98):

______________________________

(1)- التذكرة، ج 1، ص 204.

(2)- المعتبر، ج 2، ص 490.

(3)- الشرائع، ج 1، ص 107.

مجمع الفوائد،

ص: 488

«إذا ارتد الإنسان ثم حال عليه الحول ... و أيضا جميع الآيات المتناولة لوجوب الزكاة تتناول الكافر و المسلم فمن خصّها فعليه الدلالة». «1»

و تعرض للمسألة في النهاية و المبسوط أيضا هذا.

و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«من شروطها الإسلام فلا تجب على الكافر، سواء كان أصليا او مرتدا و إذا أسلم المرتدّ فلا يجب عليه إخراجها زمن ردته عند الحنفية و الحنابلة. المالكية قالوا الإسلام شرط للصحة لا للوجوب فتجب على الكافر و ان كانت لا تصح إلّا بالإسلام و إذا أسلم فقد سقطت بالإسلام لقوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ و لا فرق بين الكافر الأصلي و المرتد. الشافعية قالوا:

تجب الزكاة على المرتد وجوبا موقوفا على عوده الى الإسلام فان عاد إليه تبين أنها واجبة عليه لبقاء ملكه ...» «2»

و بالجملة المشهور بيننا بل المجمع عليه بين قدماء أصحابنا كون الكفار مكلفين بالفروع.

الاستدلال للمسألة بوجوه

اشارة

و أستدل له بوجوه:

الأوّل: الإجماع

فإن مخالفة بعض المتاخرين لا يضر.

الثاني: آيات من الكتاب العزيز

كقوله- تعالى- في سورة فصّلت: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ «3».

و في سورة المدّثر: مٰا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنّٰا نَخُوضُ مَعَ الْخٰائِضِينَ وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. «4»

و في سورة الحجر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «5».

______________________________

(1)- الخلاف، ج 2، ص 107.

(2)- الفقه على المذاهب الاربعة، ج 1، ص 591، كتاب الزكاة.

(3)- سورة فصلت (41)، الآيتين 6 و 7.

(4)- سورة المدّثر (74)، الآيات 42 الى 46.

(5)- سورة الحجر (15)، الآيات 92 الى 94.

مجمع الفوائد، ص: 489

و في سورة القيامة: فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰى وَ لٰكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى «1».

الثالث: اطلاقات و عمومات أدلة الأحكام

مثل قوله- تعالى- في سورة آل عمران:

وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «2» مثلا.

الرابع: أن الأحكام التي يدرك العقل حسنها أو قبحها

كوجوب رد الوديعة و حرمة الظلم فالعقل يحكم بعمومها إذ لا تخصيص في الأحكام العقلية و كذلك الواجبات التوصلية لكون المقصود من الطلب فيها صرف حصول متعلقاتها في الخارج.

و أما الواجبات الضرورية فيستفاد عمومها لكافة العباد من أخبار مستفيضة كخبر عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعته يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدين الذي افترض اللّه على العباد ما لا يسعهم جهله و لا يقبل منهم غيره ما هو؟ فقال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أن محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا و صوم شهر رمضان و الولاية». «3»

و خبر سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن الفرائض التي افترض اللّه على العباد ما هي؟ فقال عليه السّلام: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و إقام الصلاة الخمس و إيتاء الزكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان و الولاية ...» «4». فيقال بالعموم في ساير الأحكام أيضا بعدم الفصل فتدبر.

الخامس: صحيحة البزنطي و خبره عن الرضا عليه السّلام

ففي الأولى: «و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخيبر قبّل أرضها و نخلها ... و قد قبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خيبر و عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر. الحديث» «5».

و في الثاني: «و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخيبر قبّل سوادها و بياضها ...

و قد قبّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خيبر قال: و على المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم» «6»

______________________________

(1)- سورة القيامة (75)، الآيتين 31 و 32.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 97.

(3)- الوسائل، ج 1، ص 11، الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.

(4)- الوسائل، ج 1، ص 12، الباب 1 من ابواب مقدمة العبادات، الحديث 17.

(5)- الوسائل، ج 11، ص 119، الباب 72 من ابواب جهاد العدو، الحديث 2.

(6)- الوسائل، ج 11، ص 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

مجمع الفوائد، ص: 490

و من المحتمل جدّا اتحاد الخبرين فيشكل صحة الأولى. و ظهور العشر و نصف العشر في الزكاة و كونها غير قبالة الأرض واضح و أهل خيبر كانوا من اليهود و أهل ما يؤخذ بالسيف أيضا من الكفار فيظهر من الخبرين ثبوت الزكاة على الكفار، فتشكيك البعض فيهما بأن العشر و نصف العشر جزء من قبالة الأرض المجعولة من قبل الإمام لا من باب الزكاة مخالف للظاهر و لا سيما في الثاني، هذا.

مناقشة عدة من الأعلام في المسألة

فالمسألة بحمد اللّه واضحة و كانت عندنا مفروغا عنها إلى أن ناقش فيها المحدثان الأسترآبادي و الكاشاني و وافقهما في الحدائق و قد ذكر في الحدائق وجوها للنظر فيها:

الأوّل: عدم الدليل و هو دليل العدم.

و فيه كفاية ما ذكرنا من الأدلّة الخمسة.

الثاني: الأخبار الدالة على توقف التكليف على الإقرار و التصديق بالشهادتين.

فمنها صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال: «إن اللّه- عزّ و جلّ- بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الناس اجمعين رسولا

و حجة للّه على جميع خلقه في أرضه فمن آمن باللّه و بمحمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتبعه و صدّقه فان معرفة الإمام منا واجبة عليه و من لم يؤمن باللّه و برسوله و لم يتّبعه و لم يصدّقه و يعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام و هو لا يؤمن باللّه و رسوله و يعرف حقهما ....» «1»

فإنه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الإيمان باللّه و رسوله فبطريق الأولى معرفة الفروع المتلقاة من الامام.

و في الوافي بعد نقل الصحيحة:

«و في هذا الحديث دلالة على أن الكفار ليسوا مكلفين بشرائع الإسلام كما هو الحق خلافا لما اشتهر بين متأخري أصحابنا» «2».

______________________________

(1)- اصول الكافي، ج 1، ص 180، باب معرفة الامام، الحديث 3.

(2)- الوافي، ج 2، ص 82، في ذيل رقم 523- 3.

مجمع الفوائد، ص: 491

و منها ما رواه القمي في تفسير قوله- تعالى-: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ عن أبان بن تغلب قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا أبان أ ترى ان اللّه- عزّ و جلّ- طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به حيث يقول: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ؟ قلت له: كيف ذلك جعلت فداك فسرّه لي، فقال: ويل للمشركين الذين أشركوا بالإمام الأوّل و هم بالأئمة الآخرين كافرون يا أبان إنما دعا اللّه العباد إلى الإيمان به فاذا آمنوا باللّه و برسوله افترض عليهم الفرائض» «1».

و منها ما رواه في الاحتجاج في احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على زنديق: «و اما قوله:

إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بِوٰاحِدَةٍ فان اللّه- عزّ و جلّ- نزّل عزائم

الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة كما خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و لو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر و لكنه جعل الاناة و المداراة امثالا لأمنائه و إيجابا للحجة على خلقه فكان أول ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بان لا إله إلّا اللّه فلما أقروا بذلك تلاه بالاقرار لنبيه بالنبوة و الشهادة له بالرسالة فلما انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد ثم الزكاة ثم الصدقات و ما يجري مجراها من مال الفي ء» «2»

أقول: اما الخبر الأخير فلا ربط له بمسألتنا فانه في مقام بيان التدرج في نزول الأحكام في صدر الإسلام و هو أمر لا ينكر و إنما البحث في أن الأحكام بعد نزولها بالوحي تخص المسلمين أو تعم الكافرين أيضا.

و أمّا الآخران فأجاب عنهما الشيخ- طاب ثراه- في مبحث غسل الجنابة من الطهارة بما حاصله بتوضيح و إضافة منا: أنا لا نقول بكون الكفار مخاطبين بالفروع تفصيلا كيف و هم جاهلون بها غافلون عنها و على تقدير الالتفات يستهجن خطاب من أنكر الرسول بالإيمان بخليفته و أخذ الأحكام منه بل المراد أن الرسول أرسل إلى كافة الناس و أن المنكر له أيضا مأمور بالإيمان به و الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فإن آمن و حصل ذلك كله كان مطيعا و إن لم يؤمن ففعل المحرمات و ترك الواجبات عوقب عليها كما يعاقب على ترك

______________________________

(1)- تفسير القمي، ج 2، ص 262.

(2)- الاحتجاج، ص 379، طبع النجف الأشرف (دار النعمان).

مجمع الفوائد، ص: 492

الإيمان لمخاطبته بها إجمالا و ان لم يخاطب بفعل الصلاة و ترك الزنا مثلا، فما هو

المدّعى تكليفهم اجمالا و ما هو المنفي في الخبرين تكليفهم تفصيلا بخصوص عناوين الفرائض و ليس موضوع التكليف عنوان الكافر او المسلم او أشخاصهما، بل الأحكام تجعل بنحو القضية الحقيقة على العناوين الكلية الشاملة لهما، كعنوان المستطيع او البالغ العاقل او نحو ذلك و لا يؤخذ في الموضوعات بنحو القيدية إلّا ما هو دخيل في المصالح و المفاسد التي هي ملاكات الأحكام، و ليست القضية الكلية المحصورة الحقيقية عبارة اخرى عن مجموع قضايا جزئية او شخصية بل هي قضية واحدة بملاك واحد و له صدق واحد و كذب واحد و نقيضها سلب هذه الكلية أعني السالبة الجزئية، فليس الكافر بعنوانه مخاطبا او موضوعا للحكم الشرعي حتى يحكم باستهجان خطابه، بل الناس بما هم بالغون عاقلون، مكلفون إجمالا بالإيمان باللّه و بالرسول و بجميع ما جاء به من اللّه- تعالى- و يشترك فيها الكافر و المسلم و العالم و الجاهل بمعنى كونها حجة على الجميع، غاية الأمر تنجزها على العالم و الجاهل المقصر دون القاصر فتدبر.

الثالث من الوجوه التي ذكرها صاحب الحدائق:

«لزوم تكليف ما لا يطاق إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصورا و تصديقا عين تكليف ما لا يطاق.»

و فيه أن العلم او التمكن منه شرط للتنجز لا لنفس التكليف لاشتراك العالم و الجاهل بقسميه في أصل التكليف كما عرفت آنفا كيف و جعل العلم بالتكليف مأخوذا في موضوعه يستلزم الدور كما حرّر في محلّه.

الرابع: الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم كقوله: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».

فان موردها خصوص المسلم دون مجرد البالغ العاقل.

و فيه ما لا يخفى.

الخامس: اختصاص الخطاب القرآني بالذين آمنوا في بعض الأحكام فيحمل عليه ما ورد بقوله: يا

أيها الناس، حمل المطلق على المقيد.

و فيه أيضا ما لا يخفى.

مجمع الفوائد، ص: 493

وجهان آخران للإشكال في المسألة و نقدهما

اشارة

فهذه الوجوه الخمسة التي ذكرها في الحدائق. و يضاف إلى ذلك وجهان آخران:

الأوّل: استهجان خطاب الكافر باللّه و برسوله بالفروع الجزئية.

و فيه ما عرفت آنفا من عدم كون الخطاب متوجها إلى خصوص الكافر او المسلم بل الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقة على العناوين الكلية الواجدة للمصالح او المفاسد المقتضية لها.

الثاني: أنه تكليف بغير المقدور

و القدرة من الشرائط العامة للتكاليف. بيان ذلك أنه ستجي ء فتواهم بعدم صحة الزكاة و نحوها من العبادات من الكافر و سقوطها منه بعد إسلامه فتكليفه بالزكاة تكليف بما لا يقدر على امتثاله لا في حال كفره و لا بعد إسلامه.

و فيه أن كفره وقع بسوء اختياره فلو لم يختر الكفر اولا كان قادرا على إتيان الزكاة و نحوها و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار و لا يرفع العقوبة و لذا نقول بوقوع الحركات الخروجية في الدار المغصوبة مبغوضة و معاقبا عليها و ان اضطر إليها.

نعم يقبح البعث و الزجر الفعلي و لكن ملاك الحكم و آثاره من العقوبة و نحوها باقية بعد ما كان قادرا عليه من أول الأمر و القدرة المشترطة في التكليف و ان كانت هي القدرة حين العمل و لكن يجب تحصيلها و لو قبل العمل.

هذا مضافا إلى صحة جعل الحكم الوضعي من الجنابة و الطهارة و شركة الفقراء في المال فيكون المجعول في المقام تعلق الزكاة و فائدته جواز أخذ الإمام او نائبه قهرا عليه.

و كيف كان فالأقوى في المسألة هو ما اختاره المشهور من عموم الأحكام للكفار أيضا بمعنى عدم أخذ قيد الإسلام في موضوعاتها لعموم ملاكاتها المقتضية لها و إن كان إجرائها خارجا و العمل بها متوقفا على الإسلام، فالإسلام شرط للواجب لا الوجوب على إشكال في ذلك أيضا كما سيأتي آنفا.

تتمة: أجاب في الحدائق عن الآيات التي ذكرناها بحمل قوله: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ على المخالفين لا

الكفار فيكون المعنى لم نك من اتباع الأئمة كما في تفسير عليّ بن ابراهيم فيكون

مجمع الفوائد، ص: 494

المصلي بمعنى الذي يلي السابق و هكذا الكلام في قوله: فَلٰا صَدَّقَ وَ لٰا صَلّٰى و اما قوله:

وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لٰا يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ فمرّ خبر علي بن ابراهيم في تفسيره.

أقول: هذه التفسيرات من قبيل الجري و التطبيق و بيان بطن من بطون القرآن، و ليس لنا رفع اليد عن ظواهر القرآن بسببها، فانه حجة من قبل اللّه- تعالى- و قد أمرنا بالأخذ به و عرض أخبار الأئمة عليهم السّلام عليه، فراجع. «1»

الى هنا تمّ ما استخرجناه من المسائل الأصولية و القواعد الفقهية من مؤلّفات سماحة الأستاذ- دام ظلّه-

وَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ*

______________________________

(1)- كتاب الزكاة، ج 1، ص 126 إلى 130.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، مجمع الفوائد، در يك جلد، قم - ايران، اول، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.